فيدريكو فيلليني.. عندما يكون الخيال أصدق من الواقع

أبو السينما الإيطالية اغتال الواقعية الجديدة ليصنع من لا وعي المخرج الدافع الأهم في أعماله

TT

«أعتقد أني حتى لو عملت فيلما عن كلب أو كرسي لكان سيرة ذاتية إلى حد ما»، بكلمات مثل هذه، يلخص المخرج الإيطالي الكبير فيدريكو فيلليني بكل صراحة الأربعة وعشرين فيلما التي أخرجها طوال مشواره السينمائي الذي امتد لـ 45 سنة. ولد فيلليني في 20 يناير (كانون الثاني) 1920 في بلدة ريميني الساحلية، كان أبوه تاجر أغذية كثير السفر، وأمه كانت فتاة متحفظة هربت من أهلها في روما لتتزوج أباه، وعشق فيلليني الرسم منذ صغره واعتاد اللعب بمسرح الدمى المصنوعة من الصلصال وتشكيل شخصياته وكتابة حواراتها، كما اعتاد قراءة القصص المصورة وبالذات سلسلة «"نيمو الصغير» التي يستيقظ فيها بطلها الصغير في نهاية كل حلقة ليدرك أن كل ما مر به كان حلما أو كابوسا، ومن هنا نلحظ علاقة فيلليني الطويلة بعالم الأحلام التي امتلأت بها أفلامه، حتى أصبح مخرجا «يصور أحلامه» بحسب تعبير الكاتب والشاعر الإيطالي ألبرتو مورافيا. انتقل فيلليني إلى روما في السابعة عشرة من عمره ليعمل صحافيا ورساما للكاريكتور في صحف روما قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. في عام 1945 بدأ مشواره السينمائي عندما دخل المخرج الكبير روبيرتو روسلليني إلى دكانه الصغير في جادة نازيونالي، طالبا منه أن يشارك في كتابة سيناريو فيلم عن مدينة روما خلال الاحتلال الألماني وهو الفيلم الذي أخذ لاحقا عنوان «مدينة مفتوحة» ليصبح بعدها أحد أبرز ما قدمته الواقعية الإيطالية الجديدة من أعمال. يمكن تقسيم مشوار فيلليني السينمائي إلى ثلاث مراحل، الأولى بدأ فيها فيلليني بكتابة النصوص السينمائية حتى 1950، والثانية بدأت عندما منحه المخرج ألبرتو لاتوادا الفرصة للمشاركة في إخراج فيلم كان فيلليني قد شارك بكتابته وكان بعنوان "أضواء المنوعات" عن أعضاء فرقة استعراضية مغمورة تتنقل بين مدن وقرى إيطاليا بحثا عن لقمة العيش، ورغم أنه من الواضح أن الموهبة الفنية هي آخر ما يمتلكه هؤلاء المهرجون إلا أن فيلليني لا يتوقف عن معاملتهم بتعاطف، وهو في هذا يفصح لأول مرة عن علاقة حميمة وطويلة مع عالم الاستعراض، والتي ستظهر أكثر من مرة وبأكثر من شكل في أفلامه اللاحقة. بعد «أضواء المنوعات» أتى فيلم «الشيخ الأبيض» بنجاح تجاري ونقدي محدود عن زوجين يقضيان شهر العسل في روما، تهرب فيه الزوجة لتبحث عن أحد أبطال الفيموتي (نوع من القصص المصورة الايطالية لكن بصور حقيقية بدلا من الرسوم)، ثم بنجاح أكبر نسبيا جاء «المتسكعون» ليحكي نضج خمسة مراهقين في قرية إيطالية ساحلية لا تختلف كثيرا عن ريميني، لكن النجاح الأضخم الذي دفع بمخرجه الشاب إلى العالمية كان في فيلم لاسترادا «الطريق»، الذي فاز بجوائز دولية عديدة منها جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي والأسد الفضي في مهرجان البندقية وعرض في مدينة نيويورك لثلاث سنوات، «الطريق» يظهر عناية كبيرة عند فيلليني في رسم شخصياته، كما أنه جعل من زوجة فيليني الممثلة جوليتا ماسينا نجمة عالمية وصفتها الصحافة «بالنسخة الأنثوية من شابلن». لم تلق أفلام فيلليني هذه ترحيبا لدى بعض النقاد الإيطاليين الذين رأوا فيها اغتيالا شنيعا للواقعية الجديدة التي برزت في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، ففي حين أخذت هذه الحركة في استعراض شخصيات عادية لدراسة الخلفية الاجتماعية لايطاليا ما بعد الحرب، فإن فيلليني في أفلامه كان يفضل أن يبرز شخصياته المنبوذة وغير المألوفة أكثر من أن يتعرض لقضايا اجتماعية، فهو يقدم المهرج الصلف زامبانو وزوجته الساذجة جيلسومينا في "الطريق" 1954، ثم مجموعة نصابين في «المحتالون» عام 1955 وبعدها عاهرة ساذجة صافية القلب تبحث عن الحب في شوارع روما في «ليالي كابريا» 1957، ورغم أن فيلليني، كما أسلفنا، قد شارك في كتابة نصوص لأفلام تنتمي للواقعية الجديدة فإن هذه المرحلة كما يبدو لم تؤثر كثيرا على فيلليني، ولم تكن في الأصل تعبيرا صادقا عن رؤيته الفنية، وفي هذا يقول فيلليني عن تعاونه مع روسلليني في أفلام الواقعية الجديدة مثل «مدينة مفتوحة» و«بايزان»: «إن روسلليني كان نوعا من ابن المدينة ساعدني على اجتياز الشارع، ولا أعتقد انه أثر بي تأثيرا عميقا، لكنني أعترف له بأبوية كأبوية آدم.. لقد شجع روسلليني انتقالي من مرحلة ضبابية، معدومة الإرادة، دائرية، إلى ميدان السينما». في عام 1960 تبدأ المرحلة الثالثة التي جعلت من اسمه أسطورة، وفيها يتجرأ فيلليني إلى حد غير مسبوق في استعراض عوالمه الداخلية وأحلامه الشخصية، الشيء الذي جعله مثار إعجاب وانتقاد في نفس الوقت، ففي حين أثارت عوالمه وشخصياته الغريبة الاعجاب كسينما شخصية تحقق مصطلح المخرج المؤلف Auteur كأفضل ما يكون (يذكر فيلليني في كتابه «أنا فيلليني» أنه أول من وصف بهذا المصطلح الذي أطلقه الناقد الفرنسي أندريه بازان لأول مرة في الخمسينات في معرض حديثه عن فيلم فيلليني «ليالي كابيريا»)، وفي هذا أيضا يشبه فيلليني صناعة أفلامه بالمقابلة الذاتية، لكن هذه المرحلة أيضا قد أعطت لمنتقدي فيلليني مأخذا آخر، إنها ليست سينما شخصية فقط، إنها سينما مغرقة في الشخصية حتى لا تكاد تفهم، وهو شيء لا يتردد فيلليني نفسه في التصريح به «تعرضت للنقد لأني لا أعمل أفلاما إلا إرضاء لنفسي، وهذا مبرر لأنه صحيح. ولكن هذه طريقتي الوحيدة التي أستطيع أن أعمل بها». وفيلليني في هذا الشأن يحسد مخرجا مثل ستيفن سليبرغ لأن «ما يحبه سبيلبرغ يحبه العديد في أنحاء العالم، فهو مخلص وناجح في نفس الوقت»، في «الحياة الحلوة» 1960 أو «لادولتشي فيتا» لا يدخل فيلليني عالم الفانتازيا مباشرة، لكن الفيلم يحمل إشارة على تغير ونضج صاحبهما، يحكي الفيلم حياة الصحافي مارشيلو روبيني الذي يشمئز من أسلوب حياته في روما، ولكنه لا يستطيع أن يتركها، مع الفيلم هناك أشياء كثيرة مختلفة عن أفلام فيلليني السابقة، بدلا من إيطاليا الفقر والشوارع القذرة، نشاهد إيطاليا المزدهرة اقتصاديا، وهنا أيضا فيلليني يترك التصوير في المواقع الخارجية لصالح الاستديوهات الداخلية، وفي هذا الفيلم الذي كان أول فيلم إيطالي يقارب طوله الثلاث ساعات يترك فيلليني أيضا شخصياته المسحوقة أو المتوسطة في أحسن حال لصالح شخصيات أعلى شأنا، ويعطينا فيلليني أيضا نظرة بانورامية للطبقة الراقية المخملية في روما، يفتتح فيلليني الفيلم بمشهد معبر للغاية: تمثال ضخم للمسيح عليه السلام يجوب سماء روما معلقا بطائرة هليكوبتر بينما يحاول قائدها ومرافقوه التغزل بنساء في ثياب السباحة على أسطح أحد الفنادق، في تعبير سينمائي مذهل وبسيط عن روما المعاصرة وأصولها الدينية. لقي الفيلم نجاحا جماهيريا هائلا جعل كلمتين «لادولتشي فيتا» و«باباراتزي» تدخلان قاموس أكثر من لغة، وأثار ضجة كبيرة جعلت كلا من الكنيسة الكاثوليكية والحكومة الإيطالية تدينانه لقسوته وجرأته في تقديم المجتمع الإيطالي، «إنه لوحة مجنونة للأرستقراطية السوداء والفاشية. لم يكن في إمكاني شرح هذا للسيدة العجوز التي ركضت نحوي ذات مرة وهي صحافية في جريدة الفاتيكان، ظلت أشهر تشتم «الحياة الحلوة» لتقول لي: من الأفضل للإنسان أن يربط حجرا ثقيلا في رقبته ليغرق في عمق البحر من أن ينشر الفضيحة في المجتمع.. بعد أيام على باب إحدى الكنائس وجدت ملصقا كبيرا محاطا بالأسود كتب عليه: لنصل من أجل خلاص روح فيدريكو فيلليني الخاطئة». الحقيقة أن تربية فيلليني الكاثوليكية لها أثر كبير وواضح في أفلامه، في فيلمه «المحتالون»، ثلاثة محتالين يتنكرون في زي قساوسة من أجل سرقة القرويين، وحتى عندما يرق قلب أحدهم أمام فتاة مقعدة تريد أن يمنحها بركته وقد انتهى للتو من خداع عائلتها، فإنه يعلن للفتاة بصراحة أنه هو وأمثاله لا يملكون شيئا ذا قيمة لتقديمه لها، وأنها ستكون في حال أفضل بدونهم، وفي نهاية الفيلم نجد المحتال نفسه في حالة يرثى لها وهو ملقى على جانب طريق يحاول طلب المساعدة من أناس يمشون في مسيرة دينية تمر أمامه من دون فائدة، وكأن فيلليني هنا يتجاهل عقيدة الخلاص Salvation الكنسية، وهو سلوك سيتكرر لاحقا في أفلام «أماركورد» و«ثمانية ونصف» وغيرها، رغم أن الكاثوليكية أعطته بعدا روحانيا وصوفيا يظهر جليا في فيلم مثل «جولييت والأشباح». بعد «الحياة الحلوة» يجد فيلليني نفسه عالقا من دون أدنى فكرة عن فيلمه المقبل، «الجميع كانوا جاهزين ومنتظرين الشروع بالعمل، وما لم يعلموه هو أن الفيلم الذي كنت سأعمله قد هرب مني»، ومن هنا تأتيه الفكرة، لماذا لا يقدم قصة مخرج سينمائي لا يستطيع أن يجد فكرة لفيلمه المقبل بينما يوهم الجميع من حوله بأنه يملكها؟ المخرج الذي يؤدي دوره مارشيلو ماستروياني هو فيلليني، و«ثمانية ونصف» في الحقيقة هو فيلم يتحدث عن نفسه، وفيلليني هنا يقدم أفضل أعماله حين يخلط الحقيقة بالخيال والأحلام بالذكريات، ليلقي نظرة فاحصة على العملية الإبداعية عند الفنان، ألهم الفيلم مخرجين كثيرين، عدة مخرجين حاولوا تقديم نسخهم الخاصة من «ثمانية ونصف» (منهم وودي آلن في «ستاردست ميموريز» وبوب فوس في «كل ذلك الجاز») لكن لا أحد منهم استطاع تقديم السحر نفسه. بعد «ثمانية ونصف» يأتي أول أفلام فيلليني الملونة، «جولييت والأشباح» 1965، هذه المرة يقدم فيلليني أزمة ربة منزل من طبقة عليا في منتصف عمرها تشك بأن زوجها يخونها، ومرة أخرى ندخل في أحلام الشخصية وعالمها الباطن الذي لعبت فيه الألوان وتصميم المناظر دورا مهما هذه المرة، لكن قصة فيلليني الأنثوية لا تنجح كثيرا في توليف مزيج جذاب ومتماسك بين الواقع والخيال كما فعل من قبل. في 1969 يقدم فيلليني نظرة تاريخية متخيلة لروما قبل المسيحية في «فيلليني ساتيركون»، المستوحى بحرية من كتاب لنبيل روماني يدعى تايتوس بترونيوس عاش في عصر الطاغية نيرون ولم يكتشف كتابه إلا في القرن السابع عشر، جزء صغير ومبعثر هو الذي وصل إلينا، وهي فرصة ذهبية لفيلليني ليصور أحلامه وكوابيسه المبعثرة، ولكي يتخلص أيضا بشكل كبير من طريقة السرد التقليدية التي بدأت تختفي معه منذ «ثمانية ونصف»، ولهذا فإن «الفيللينية» هنا تصل إلى ذروتها في تقديم عالم قاس مليء بالعنف والانحطاط الأخلاقي وامتهان الإنسان، إنه أشبه بكوابيس «فيللينية» طويلة ومروعة (يذكر فيلليني لاحقا أنه قرأ الكتاب وتأثر به منذ أن كان طفلا)، وهو يحمل أيضا أكثر من شبه بروما المعاصرة التي قدمها سابقا في «لا دولتشي فيتا». عام 1971 يشهد «المهرجون»، فيلم تلفزيوني يعود فيه فيلليني إلى أحد مواضيعه المفضلة: السيرك ومسرح المنوعات، ليعلن فيه وعلى حد تعبيره «انحطاط السيرك والمهرج» على حد سواء. في 1972، يعود فيلليني لروما مرة أخرى، لكنها هذه المرة «روما فيلليني» وهو في جزء منه سيرة ذاتية يراوح فيها فيلليني بين روما أثناء الحرب العالمية الثانية وروما في بداية السبعينات، في مشهد واحد يعبر فيلليني عن مدينته بكل جلاء: زحمة سير شديدة حول مبنى الكولسيوم العتيق، إنها «روما القديمة ترقد تحت روما الحديثة»، في الفيلم خليط بين ذكرياته وبين مشاهد تبدو كالوثائقية لروما الحديثة، بالإضافة إلى مقطع فانتازي «فيلليني» من الدرجة الأولى: عرض أزياء كنسي بأزياء راهبات و قساوسة. بعد «روما» وفي 1974 يعود فيلليني إلى أيام مراهقته وطفولته في قريته ريميني في فيلم «أماركورد»، ويعود فيه أيضا إلى أسلوب سرد أكثر تقليدية وأكثر عذوبة، وهنا يستعين فيلليني بموهبته كرسام كاريكتير في تركيب شخصياته بشكل مبالغ فيه، في أحد المشاهد، نرى عائلة الطفل «تيتا» تخرج عمها المجنون من المصحة في يوم إجازة لنشاهده بعدها يصعد إحدى الأشجار ويرفض النزول وهو يصرخ بأعلى صوته: «أريد امرأة، أريد امرأة»، إنه تعليق طالما كرره فيلليني حين يتهم النظامين الديني والسياسي بتشويه الشخصية الايطالية وجعلها خانعة وذليلة كالأطفال، والمجنون وحده من يطالب علنا بما يتمناه الجميع.

يحتل فيلليني مكانة كبيرة بين المخرجين، ففي تصويت مجلة «سايت آن ساوند» البريطانية لعام 1992 عن أفضل المخرجين في تاريخ السينما، نجد أن المخرجبن يضعون فيلليني أولا، بينما لا يجد له النقاد مكانا في قائمتهم، كما أن فيلما مثل «ثمانية ونصف» يظهر كثيرا لو تصفح المرء بعض القوائم الخاصة بالأفلام المفضلة لدى المخرجين.

فيلليني يعامل شخصياته باهتمام بالغ، وهو في الحقيقة ليس قاصا أو راويا سينمائيا بالمعنى المعتاد، وإنما ترتكز أفلامه على شخصياته وبالذات في الخمسينات، ثم على قدرته التعبير البصرية المبهرة في خلق عوالمه وتخيلاته وخاصة في الستينات وما بعدها، وهنا يشير فيلليني نفسه إلى أن بعضا من أفلامه تبدأ عندما يرسم وجه شخصياتها الرئيسية وبعدها يبدأ في تركيب الأحداث حولها كما فعل مع شخصية جيلسومينا في فيلم «الطريق»، وهنا أيضا يحضرنا تصريح فيلليني نفسه بأنه حتى بعد أكثر من عشرين سنة من صنع فيلم «ليالي كابيريا»، لا يزال فيلليني يتساءل عن مصير شخصية الفيلم الرئيسية كابيريا. عام 1990 شهد ختام مشوار فيلليني السينمائي بفيلمه «أصوات القمر»، وهو مشوار شهد اثني عشر ترشيحا للأوسكار منذ فيلمه الأول «مدينة مفتوحة»، وحتى «كازانوفا فيلليني» في 1976، كما فازت أربعة من أفلامه بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي: «الطريق»، «ليالي كابريا»، «ثمانية ونصف» و«أماركورد»، في مارس (آذار) عام 1993 تلقى المايسترو تكريما من الأكاديمية على مجمل أعماله وانجازاته السينمائية بعدها بسبعة أشهر توفي في روما في الحادي والثلاثين من أكتوبر (تشرين الاول) بسبب أزمة قلبية، في حين توفيت بعده بخمسة أشهر زوجته الممثلة جوليتا ماسينا التي كانت «مصدر إلهامه» وشاركته حياته وأفلامه لخمسين سنة.