«طروادة».. حكاية هوليوودية تعيد أساطير الحب والمجد والقتال الإغريقي

الفيلم لاقى استياء من بعض النقاد على الرغم من المائة والخمسة والثمانين مليون دولار التي حققها في شباك التذاكر

TT

هل يتوجب على المشاهد أن يكون قد قرأ إلياذة هوميروس أو اطلع عليها وهو يشاهد فيلم فولفغانغ بيترسون الأخير «طروادة»؟ وهل سيتقبل فيما بعد تلك التغييرات التي عملها بيترسون على أصل الرواية حتى تتناسب مع الانتاج الهوليوودي والتي ليس أقلها ان ما حدث عند هوميروس في الالياذة في عشرة أعوام طيلة حصار طروادة جعله بيترسون في بضعة أيام فقط! هناك جدل كبير بين المشاهدين والنقاد في أمرين: الأول هو ما يتعلق بقيمة الفيلم الفنية ورؤية المخرج بيترسون.

والثاني هو حول أهمية التقيد بالنص الأصلي حينما يقدم سينمائيا.

ففي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن التقيد بشكل أمين بالنص الأصلي هو أمر مفترض على المخرج وليس هناك قبول لأية عملية تحوير أو تغيير على النص الأصلي يرى آخرون أن العملية السينمائية لها طابعها الخاص وتمتلك رؤيتها المستقلة عن أي نص أدبي آخر، وبالتالي فإن التغيير لمصلحة النص السينمائي يبدو مقبولا. يقول الناقد بروس بينيت الذي يبدي إعجابه بالفيلم: «ان كنت تريد دقة تاريخية فاذهب واستأجر فيلما وثائقيا». ولكن من جهة أخرى أعتقد أن بيترسون لم يكن مصيبا في هذه التغييرات الكثيرة التي أحدثها في فيلمه، لكنه في المقابل استطاع أن يقدم حكاية هوليوودية جميلة تجعل ناقدا مثل جوبالتيك يقول «بترسون عمل ملحمة مثيرة للبالغين. إنه النوع الذي لم نشاهده منذ 40 سنة» بينما يشبهه جين اوفموث بملاحم المدرسة القديمة الكلاسيكية.

ولكن الحق أن فيلم طروادة لاقى أيضا استياء شديدا من قبل بعض النقاد وخيب آمال بعض المشاهدين على الرغم من المائة والخمسة والثمانين مليون دولار التي حققها في شباك التذاكر ـ والتي تعتبر نوعا من الخسارة بالنسبة لتكلفة الفيلم ـ فالناقد دانيل كاميل يصف الفيلم قائلا «انه أجوف من الداخل مثل حصان طروادة الشهير» ويعلق روس انتوني من «هوليوود روبيرت كارد» بالقول: «ملوك وقتل وفتيات ومجد.. فيلم يفتقر إلى الدفء الروحي والسينمائي». وبطرافة يعلق بول كلنتن في «سي.ان.ان»: «هناك الكثير من الأحشاء والمجد هنا، وليس هناك الكثير من القلب».

وإذا ما رجعنا إلى أفلام المخرج الألماني بيترسون سنجدها أفلاما ذات طابع ممتزج ما بين الاثارة والحركة مثل «وباء» و«طائرة الرئيس» و«على خط النار» و«عاصفة مثالية» وهو معني بالسرد ورواية الحكاية بشكل جميل ومؤثر من دون الاهتمام بشخصيات القصة وبنائها أو تكثيف الكشف عن تكوينها. وأكبر انجازاته كانت من خلال فيلم «القارب: داس بوت» الذي يحكي قصة يوميات غواصة ألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية وكان هذا الفيلم قد ترشح لأوسكار أفضل مخرج وأفضل سيناريو مقتبس وأفضل تصوير.

وفي طروادة يعيد بيترسون قصة الملحمة الشهيرة التي كتبها هوميروس في الالياذة ليقدم هو بنفسه ملحمة سينمائية ضخمة كانت لتناسب عروض الصيف لهذا العام معتمدا بذلك على الكاتب ديفيد بينوف الذي كان خلف قصة وسيناريو الفيلم الرائع «الساعة الخامسة والعشرون» لسبايك لي وتصوير أكثر من رائع لروجر برات (شوكولاتة واثنا عشر قردا) وموسيقى جميلة كعادته من جيمس هورنر (قلب شجاع وتايتانك).

القصة كما في الفيلم تروي حكاية حصار طروادة الذي ضربه الملك اليوناني اغا ميمنون مستعينا بالبطل الاسطوري اخيل (براد بت) ومستغلا الفرصة لإكمال سياسته التوسعية في بلاد اليونان وفرض سيطرته عليها.

ولم يكن الملك اليوناني اغا ميمنون ليجد هذه الفرصة قبل أن يستنجد به أخوه مينيلاوس ملك اسبارطة لرد كرامته والانتقام لشرفه في قتال طروادة وملكها بريام (يؤدي دوره الانجليزي المخضرم بيتر اوتول بطل فيلم «لورنس العرب») حينما قام الامير باريس ابن بريام (ارولاند بلوم الذي شاهدناه في ثلاثية «سيد الخواتم») وبغفلة من الجميع بخطف عشيقته وزوجة مينيلاوس الحسناء هيلين (العارضة الالمانية ديانا كروجر) في نفس الوقت الذي كان يحتفل فيه وفد طروادة بعقد السلام مع الملك مينيلاوس. وسيتضح فيما بعد ان الملك اليوناني اغا ميمنون كان معترضا على أخيه في عقد هذا السلام فـ(السلام للضعفاء والنساء) كما يقول. ومن اجل هذه المعركة كان لا بد للملك اغا ميمنون ان يتغاضى عن خصومته مع البطل المتعجرف اخيل (الذي لايقاتل الا من اجل نفسه) كما يصفه حتى يستعين به في مواجهة حصن طروادة المنيع وجيشها المقاتل بقيادة الأمير هكتور مروض الخيول (يؤدي دوره الاسترالي ايريك بانا الذي أدى البطولة في فيلم انج لي «العملاق» وهو أحد افضل الأدوار في الفيلم بجانب بريان كوكس في دور الملك اغا ميمنون).

الحقيقة أنه يمكننا النظر إلى الفيلم كمسرح لأحداث انسانية سابقة وتراجيديا أغريقية تمتزج فيها معاني البطولة والشرف والحب والطمع والانتقام. فهو فيلم لا يعنى بمحورية الصراع بين طرفي الخير والشر كما هي الافلام عادة وعلى المشاهد أن يكون محايدا وهو يراقب هذا العبث الانساني حين تدفعه الشهوة وتلتهب فيه الدماء ومصارع الرجال.

وحينما يقابل هكتور الملك اغا ميمنون قبل المعركة ويعرض عليه الاستسلام حتى يحفظ دماء شعب طروادة يجيبه هكتور «ان ابن طروادة لا يمكن أن يذعن أبدا لحاكم أجنبي» يعلق الناقد جون بيسوف بطرافة حول هذا المشهد قائلا «من يهرب هذا الفيلم بالتأكيد سيكون بائعا كبيرا في الفلوجة».

والفيلم ايضا يضعنا بشكل حيادي وسط هذا النسيج المتباين في شخصيات الفيلم على الطرفين ما بين عشق باريس وجبنه واعتداد مينيلاوس المخدوع بزوجته وجشع الملك اغا ميمنون وذكائه وحكمة الملك بريام وعطفه واخلاص زوجة هكتور والامير أوديسيوس صديق أخيل. والأمر في أقصى حالاته ما بين أشهر شخصيتين في الفيلم البطل أخيل الذي لم يكن ليقاتل تحت راية ملك طامع ومتغطرس مثل اغا ميمنون لولا شغفه بالخلود والذكر الانساني. تقول له أمه وهو متردد في الذهاب الى الحرب «بإمكانك ان تبقى ولا تذهب الى الحرب فتحب وتتزوج وتسعد بأولادك ثم تموت ولاتذكر فيما بعد.. أما اذا ما ذهبت للقتال فإنك ستخلد اسمك». وفي المقابل هناك هكتور أمير طروادة وبطلها وقائد جيشها بصرخ في الجيش قبل القتال ليغذي فيهم نخوة الدفاع وشرف البطولة: «لقد تعلمت ثلاثة اشياء: أحبب زوجتك واكرم الآلهة ودافع عن وطنك». انه الأمير الشريف الذي يظهر حبه لزوجته وشديد اخلاصه لها ويرقب ابنه الصغير وهو يتمنى ان يراه يكبر امام عينيه لكنه يشعر بواجبه تجاه وطنه ودفاعه عن شعب طروادة بكل شجاعة وشرف. وفي المشهد الذي يلتقي فيه اخيل مع هكتور يكون الفيلم قد وصل الى ذروته في تأجيج المشاعر لدى المشاهدين والكشف عن مفارقات الهدف والغاية وسط سيطرة الشهوة الانسانية. كما هي مشاهد القتال العنيفة التي رسمها بيترسون حينما تلتقي الجيوش وتلتحم الصفوف وسط تطاير الاشلاء في مشاهد مهيبة كان للكومبيوتر ولا شك دوره في اضفاء كل هذه الضخامة لينتج في الأخير الاعلان المتكرر عن عبثية الحرب وأطماع الرجال وشهوة الذكر والخلود.

من جهة ثانية فبيترسون لم بقتصر على الجانب العنيف من هذه الملحمة وانما أضاف اليها ذلك النسيج العاطفي من خلال العشق الفاتن ما بين الامير باريس والاميرة هيلين والذي كان السبب الاول في اشعال هذه الحرب ولم يخف الملك بريام حينها تعاطفه مع ابنه حينما يقول له «ان افضل الحروب التي تخاض من اجل الحب». ثم هناك العلاقة الطارئة التي أخرجت اخيل من شجاعته المتكبرة وتعجرفه البطولي الى صورة العاشق الوله حينما يتعلق ببريسيس ابنة اخ الملك بريام وخادمة المعبد.

أعتقد انها كانت خلطة هوليوودية جيدة من فولفغانغ بيترسون ما كانت لترضي هوميروس اطلاقا او كما يقول شون بورن في مجلة فلادلفيا: «انها تدعو هومر الآخر ـ يقصد هومر سمبسون الشخصية الكوميدية الشهيرة ـ ليقول للمخرج: «فيلمك مجوف أكثر من الكنيسة»!!