الفيلم الأسود موجة أوروبية تتربع على شطآن أميركية

محمد مقبل

TT

رغم أن أوروبا كانت تنتج وتصنع أفلاما سينمائية منذ زمن طويل، الا ان السينما الأميركية التي كانت تستعير الكثير من الأدوات والتقنيات الأوروبية كانت وما زالت المحطة الأولى والسوق الأكبر لأفلام السينما.

وحينما كتب الناقدان الفرنسيان نينو فران وجون بيير شارتييه عما أطلقا عليه «فيلم نوار» (فيلم أسود) عام 1946 لم يكونا على علم بأنهما على موعد مع التاريخ السينمائي الذي اتخذ من مصطلحهما عنوانا لموجة هامة في تاريخ السينما الأميركية، رغم ان هذا المصطلح انتشر عالميا في السبعينيات.

كانت الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية فترة حاسمة سينمائيا حيث أن فيلم نوار كان قد بدأ يتشكل حينها. استعارت هوليوود بشكل مكثف من تقنيات واضاءات الأفلام التعبيرية الألمانية التي كان يستخدمها المخرجون الألمان، كما هاجر الكثير من أوروبا الى هوليوود ليمارسوا ابداعهم هناك، من ضمنهم المصور النمساوي كارل فرويد والمخرجان بيلي وايلدر وفريتز لانغ، اضافة الى بعض الممثلين مثل مارلين ديتريش وبيتر لور.

في فيلم نوار يظهر عالم المدينة السفلي والشخصيات باللونين الأبيض والأسود مع وجود لمبات عارية لتوضيح التباين بين الضوء والظل. كما تدور الأحداث في ظلام الليل غالبا.

بالرغم من الاختلافات العديدة فان معظم شخصيات فيلم نوار، الخيرين والأشرار وحيدون يعانون من جنون الاضطهاد المتوجه نحو قدر أسود غالبا ما يجرفهم للدرك الأسفل. لكنهم مع ذلك يتبادلون القليل من الحوارات الأنيقة مع المرأة المغوية التي يتعذر تجنبها والتي هي أيضا أنيقة، وبعزيمة قوية، ومستقلة وهي التي تذكر غالبا كإحدى السمات المميزة للفيلم نوار.

وظهرت جذور فيلم نوار في السينما التعبيرية الألمانية وكان من أهم أفلام تلك الحقبة الفيلم الرائع "M" 1931 عن قاتل أطفال تبحث عنه الشرطة وعصابات العالم السفلي كذلك، وكل منهم لديه أسبابه للقبض على ذلك القاتل.

وتشترك أفلام نوار في كآبتها والاحساس بالغربة والهوس والغموض والوهم والتشاؤم والفساد الأخلاقي والشر والشعور بالذنب.

وهناك ظروف معينة ساهمت في خروج فيلم نوار للوجود وهي الحرب العالمية الثانية، وحلول العصابات والفتوات في العشرينيات والثلاثينيات.

وهناك عنصر مهم وحيوي وهو ظهور صانعي الأفلام المهاجرين الى هوليوود والتابعين للمدرسة الألمانية الذين لم يحضروا تقنيات أفلامهم التصويرية والفنية مثل الكاميرا المتحركة، والتصوير من الزوايا والاضاءة الخافتة الفريدة فحسب، بل أحضروا معهم نظرتهم المختلفة أو نظرة العالم. وهم أقدر من الأميركيين على رؤية أوضاع أميركا كونهم حديثي العهد بأميركا.

وتمتد الفترة الكلاسيكية للفيلم نوار من عام 1941 تقريبا بفيلم the Maltese falcon الذي تلته بعد ذلك العديد من الأفلام الشهيرة الى يومنا هذا وانتهاء بعام 1958. واشتهر الفتى العجيب «أورسون ويلز» ـ الذي أخرج فيلمه الخالد Citizen Kane الذي يعتبره معظم نقاد العالم أفضل فيلم أميركي خرج للوجود ـ بأداء بعض أدوار البطولة في الفيلم نوار ومن بينها the lady from shanghai عام 1948 مع الجميلة ريتا هيوارث حتى انتهى تمثيلا واخراجا بما يعده أغلب النقاد آخر فيلم نوار كلاسيكي: a touch of evil عام 1958 مع الممثلة مارلين ديتريش مرورا بفيلم the third man عام 1949 كما اشتهر معه الممثل الذي يعتبره الكثير من النقاد أفضل ممثل أميركي همفري بوغارت.

ورغم انتهاء الفترة الذهبية الكلاسيكية لفيلم نوار عام 1958، الا أن العديد من المخرجين استمروا بتقديم فيلم نوار ولكن بمصطلح جديد «نيو نوار» أي فيلم نوار جديد، والسبب في اطلاق هذا المصطلح ان أفلام نوار الجديدة كانت ملونة وليست بالأبيض والأسود.. من بين هذه الأفلام الحديثة نذكر China town عام 1974 اخراج رومان بولانسكي الذي حاز أوسكار أفضل مخرج عن فيلمه the pianist، Blade runner عام 1982 اخراج ريدلي سكوت وblood simple عام 1984 وFargo عام 1996 وكلاهما من اخراج جويل كوين، وL.A confidential عام 1997 اخراج كيرتيس هانسون الذي حاز اعجابا نقديا مثيرا وترشح لعدة جوائز أوسكار من ضمنها أفضل فيلم وحصد أوسكار أفضل سيناريو وأفضل ممثلة مساعدة.

وفي عام 2001 ظهر the man Who wasn"t there الذي صور بالأبيض والأسود وهو من اخراج جويل كوين كذلك.

وكان الفرق الجوهري كما قلت سابقا بين فيلم نوار الكلاسيكية وفيلم نيو نوار هو الألوان، اضافة الى فرق مهم جدا وهو أن مخرجي فيلم نوار الكلاسيكية لم يكونوا على علم بمصطلح يشمل أفلامهم وبالتالي لم يكونوا يصنعون فيلما ليكون فيلم نوار. واتفق كثير من النقاد على أساسيات واضحة ومحددة تميز فيلم نوار عن غيره من المذاهب السينمائية، أذكر منها الصور القاتمة والضبابية والمتباينة التي تصور بالأبيض والأسود والتصوير غالبا ما يكون بعد سبات الشمس.

ولا بد من وجود شخصيات متحجرة الفؤاد ومتشائمة وصلبة أو على أقل تقدير شخصيات قوية الشكيمة والتي عادة ما تكون شخصيات محببة، وبالطبع لا بد من وجود امرأة فاتنة وأنيقة ومستقلة وخطيرة عادة، وبطل الفيلم يواجه مأزقا أخلاقيا وبعض التهديد، وغالبا ما تكون قصة جريمة أو بوليسية بطريقة الفلاش باك، الحوار واضح ومحدد وذكي غالبا فليس لدى فيلم نوار وقت لحوارات سخيفة لا معنى لها. وغالبا ما يكون المخرج ألمانيا أو نمساويا من المدرسة الألمانية، جرعة من جنون الاضطهاد أو احساس بانعدام الأمان والخيانة والوقوع في الفخ، ويجب ألا تكون النهاية سعيدة والا تحول الفيلم من فيلم نوار الى فيلم غريس (رمادي). وفيلم غريس ـ قدم هذا المصطلح جون توسكا ـ هو فيلم نوار ولكن نهايته سعيدة.

ورغم أن غالبية فيلم نوار يكون من السهل التنبؤ بنهايتها الا أن هذا ليس هو المهم في فيلم نوار، فالمشاهد يعرف من هو القاتل منذ البدء ولكنه يتساءل ما هو سبب القتل؟ وبالطبع ليس هناك عاطفة سخيفة أو مبتذلة أو اباحية أو نهاية سعيدة، فالنهاية غالبا ما تكون تراجيدية.

وهكذا نجد ان لدينا موجة هامة في تاريخ السينما الأميركية لا بد لمحبي السينما والأفلام بشكل عام من مشاهدة بعض أفلامها.

كلام الصور: