عندما يحارب إنسان القرية المجهول من أجل الحب!

المخرج الهيتشكوكي نايت شياملان يبدأ بكتابة أفلامه من نهايتها لكي يصعق المشاهد

TT

من المعروف أن شهرة سيرة المخرج والكاتب م. نايت شياملان قامت حتى قدوم فيلمه الاخير «القرية» على المفاجآت والتلاعب والعبث بتوقعات المشاهدين. وهو الذي أضاف الكثير في السنوات الخمس الأخيرة لفئة الرعب والدراما، بمنعطفات وأفكار تدعو للتحليل، مصمماً هذا كله حول خداع الجمهور ليصل إلى نهايات لا يتكهنها أحد. ولقد كسب مع الزمن لقب «مخالف التوقعات»، لدرجة اتهامه أخيرا أنه عندما يباشر كتابة فيلم جديد، يفكر أولاً بالنهاية، وجديدها الصاعق، ثم يعود للقصة وأحداث الفيلم. كل هذه الأمور لا تعني المهتمين بسينما نايت شياملان، من «الحاسة السادسة» إلى «غير قابل للكسر» وصولاً لفيلمه الجديد، فإشارات أفلامه تتحدث عن روحانية الاتصال مع النفس ومع العالم الخارجي، وعن وحدة الأسرة والمزايا التي يتمتع بها بنو البشر. مهما كانت أفلامه خادعة، لا يوجد شك أن شياملان أثبت أنه صانع أفلام موهوب بتجارب سينمائية مؤثرة على أقل تعبير. في حين أن جديده «القرية» ربما لا يكون على مستوى تلك الأفلام، لكنه لمحة تلامس الحقيقة عن جنون ارتياب الإنسان من المجهول.

نحن في العام 1897، الأحداث تقع داخل قرية صغيرة في بينسلفينيا، مجتمع بسيط، معزول عن العالم الخارجي، يعيش بسلام ووئام. هدوء حياتهم وحتى وجودهم يتعرض للتهديد عندما تقوم الكائنات الغريبة الموجودة في الغابة المطلة عليهم بإحاطة البلدة والسيطرة على أراضيهم، قتل حيوانات صغيرة وترك علامة تحذير حمراء اللون على أبواب منازلهم. يقرر لوشس هانت (خواكين فينكس) ابن الأرملة أليس (سيغورني ويفر) المغامرة في الدخول إلى الغابة بخدعة ما كي يجد الدواء المطلوب لمعالجة الحيوانات المصابة بمرض خطير وربما مزمن. كبار القرية، برئاسة معلم المدرسة إدوارد وكير (ويليام هانت) يرفضون طلبه. يصر القرويون على عدم إبطال الهدنة التي تقول «هؤلاء لا نتكلم عنهم»، التي وعدوا فيها عدم دخول أراضي تلك المخلوقات، خوفاً على سلامة حياتهم. يصاب أحد السكان بجروح كبيرة، ولكي يتم معالجته، تنجح ايفي الفتاة العمياء (برايس دالاس هاورد) ابنة إدوارد، بإقناع والدها أنها الشخص المناسب لمهمة الحصول على الدواء. مع أنها لا تستطيع الرؤية، فعند ايفي حواس استشعار أقوى من الإنسان العادي وربما تتمكن من استغلال ضعفها في تخطي تلك المخلوقات، من دون أن تشعر بتهديد الإنسان تجاهها.

«القرية» فيلم جيد، وهو مديح رائع للإنسان وغرائزه الفطرية، يعيد الثقة بالحب الذي لا فكاك منه. لكن يؤخذ عليه امتلائه بالمتناقضات، نظريات عملاقة طموحة تحتاج لمعالجة وسيناريو مفصل أكثر دقة ونباهة من الذي وضعه م. نايت شياملان هنا، تارة يتحدث عن جمال وبساطة العيش في الريف وعن طيبة قلب سكانه، وسعيهم لحياة هانئة، بعيداً عن المدن الكبيرة التي باتت تعج بالخوف والإرهاب. وتارة أخرى يقول إن الماضي المرير الذي مرت هذه الشخصيات يجعلهم يتوترون من أي شيء، لا يواجهون واقع مشاكلهم بل يؤمنون بخرافات كانوا قد سمعوا عنها وأبرموا اتفاقاً بعدم التحدث عنها. تخلوا عن حياة عادية وكرسوا أنفسهم لحياة يعتقدون أنها ستقودهم للحل الأمثل. الفيلم يريد الاحتفاء بعامل الأمان وسكينة قريرة الإنسان في مجتمع أميركي مليء بالجرائم وتجنب ما هو المجهول، لكن مع نهاية الفيلم كل هذه الأفكار الذكية تكون قد تبخرت بسبب روتينية شياملان في معالجته لنهايات أفلامه. أفضل ما قام شياملان بكتابته هو رسم الشخصيات، ووصف حالة الهلع في وجه الإنسان، قصة الحب التي تدور بين شخصيتين رقيقتين وتتحلى بالشجاعة، منطقية وعذبة. المفتاح لهذه العلاقة ليس فقط الحب والحاجة، كلاهما يرى في الآخر التضحية من أجل الآخرين، قوة الإرادة وآثار الماضي عند كلاهما. الجودة التي قام بها المخرج بتنفيذ هذه العلاقة تجعل من المشاهد يتلهف لمشاهدة فيلم عاطفي بحت من كتابته. وهو لا يكرر نفسه كلياً في «القرية»، لا يعمل في نفس المحيط، لا في نوايا القصة، ولا حتى في مغزى أساليب التصوير. النهاية المفاجأة وما تقدمها من حب واهتمام حول القصة والشخصيات لا تفسد الفيلم برمته، الجزء الأكبر من الفيلم يحافظ بنسبة 50 % من قوته. حكايات شياملان دائماً تتسم بالهدوء والتروي، تقدم الأحداث وتتطور العقدة التي يتكلم عنها، الشخصيات عميقة ويطغي عليها براءة الطفولة. يضع شخصية عمياء في غابة معزولة، يريد التعبير عن قدرة الإنسان بمواجهة ما يفوق قدرته إذا توفر الدافع القوي. في هذا النطاق شياملان ينجح كثيراً في خلقه للتشويق والمشاهد المرعبة. التمثيل في أفلام م. نايت شياملان مثير للاهتمام، يشرح كيف تفكر الشخصية بسهولة، ويبين ردة فعل كل دور تجاه المقابل بطريقة لافتة. هذه المرة، لا يبرز سوى خواكين فينكس (دائماً جيد) وبرايس دالاس هاورد (ابنة المخرج رون هاورد بإطلالة أولى مبهرة). انظر إلى شخصية الممثل ادريان برودي نوا بيرسي، وجوده في الفيلم لا يعد أكثر من أداة وعذر لتبرير خدع شياملان، المخرج يحاول توفير شخصية تعطي سبب وجيه لتوجه السكان إلى الغابة من أجل الدواء، أو تضخيم أشرار تلك المخلوقات على الإنسان، وبالطبع، لا يوجد أفضل من دور فتى أخرق لا يفكر بنتائج أفعاله ليكون الطعم. تمثيل ادريان برودي وشخصيته أمور تفتقد للأبعاد الأساسية. خواكين فينكس مؤثر وصبور في تأدية شخصية منطوية وعطوفة، برايس دالاس هاورد تشير إلى براعتها وإصرارها لتنفيذ مهمتها والمحافظة على حكمتها كإنسان ألهمته شجاعة وحاجة من حوله مع إبراز جانبها الأنثوي المحب في الكفاح. ممثلين مثل سيغورني ويفر، ويليام هانت، جودي غرير، برندان غليسون يظهرون ويختفون بطرق عشوائية متفرقة أحياناً مهمة وأحياناً لا. «القرية» أحياناً يقع بشرور أعماله، يتباهى بحبكته ويتمادى بذلك. كنت على علم أن شياملان سيقدم ما هو مبتكر، لكنه لم يوفق بشكل كامل. النظر للفيلم كصور نهائية يبقى كتجربة متماسكة، الفيلم يعمل بشكل ذكي كإثارة غير طبيعية، يسأل الجمهور ما هي أسوء جريمة، أن تخسر براءتك أم تخسر حبيبك، أم تكتشف حقيقة الرعب والمخلوقات الموجودة في الغابة. هناك بعض الصور العنيفة، لحسن الحظ تستخدم كي تشرح نقطة معينة، مثل: حيوانات مسلوخة، وحش ما يلاحق فتاة في الغابة، شخص يموت جراء وقوعه في حفرة، وآخر يُطعن في صدره عدة مرات. ايفي تصفع أحدهم بقوة قبل أن تُجر من الغرفة وهي غاضبة. «القرية» يأخذ اتجاها جديدا في مسيرة المخرج، انه عن العلاقات وعن الحب، لا تتوقع من الفيلم شيء خيالي، شياملان يحبذ أن يدخل الجمهور لهذه القصة كي يقضي وقت ممتع، يتأثر ويلامس قيمة التحلي بالإيمان والثقة بالنفس ليس من أجل الفرد بل من أجل الجماعة، ومن أجل الحب. والأهم أن م. نايت شياملان لم يفقد حرفيته وسمعته كصانع أفلام هيتشكوكي مفكر.