الموسيقى في السينما.. تاريخ طويل بدأ جميلا واستمر ساحرا!

TT

عند التمعن في مسيرة الإنسان الممتدة منذ بدء التاريخ وحتى يومنا، نجد أن الموسيقى كانت جزءا من حياة الإنسان القديم تمثل له تماماً ما تمثله للإنسان اليوم. تتدخل في أعياده وأفراحه وأحزانه وكافة المناسبات الأخرى، وكأن هذا الحس والفن الموسيقي غريزة ترافق الإنسان مع الزمن.. ولا أوضح وأبلغ من أن نرى الموسيقى في حاضرنا، ونلاحظ انتشارها العظيم، وتنوعها الهائل. وكيف أنها تلامس أرواح آلاف البشر.. وتتلون باختلاف عادات البلدان، وثرائها، وموقعها الجغرافي، وعمق التماسها بالتقنية.. واليوم دخلت الموسيقى في كل شيء. الراديو، التلفاز، المسارح، السيارات، الحفلات، وأذهاننا، بل ووصل نفوذ فن الموسيقى إلى بعض الفنون الأخرى كالسينما والمسرح. وحديثنا هنا سوف يتناول العلاقة المتجانسة بين الموسيقى والسينما، وكيف ساهم كل طرف في إنماء الطرف الآخر. وكيف تسللت الموسيقى إلى السينما باستحياء في بادئ الأمر، حتى صارت ـ فيما بعد ـ جزءا مهماً لا يمكن للمشاهدين إكمال فيلم يخلو منها.

ولطالما تساءلنا، متى يقومون بتأليف وتلحين الموسيقى؟ وكيف تتم هذه العملية؟ والحقيقة أن الموسيقى تؤلف بعد انتهاء العمل على الفيلم وتصويره. فبعد تخطيط بين المخرج والملحن، يكون الملحن قد خرج وهو يعرف المشاهد التي سوف يلحنها فيُعطى مدة زمنية محددة ينجز فيها عمله، يعود إلى منزله، ولا يفعل شيئاً سوى الاسترخاء والانتظار، فالمبدع لا يسيطر على وقت إبداعه، والألحان الجيدة ـ كما يقول الملحن الكبير هانز زيمر ـ تأتي وأنت لا تفكر فيها. وفي لحظة معينة، تأتي شرارة الإلهام فتنطلق الألحان وتتدفق في مخيلة الملحن، ويسجلها على أوراق موسيقية خاصة ويعيد صياغتها مرات ومرات، مجرباً استخدام مختلف الآلات من أجل التوصل إلى أفضل مستوى يمكن عزف ألحانه فيه، وفي مقر عمله يوجد صالة موسيقية ضخمة مزودة بكامل الآلات التي يحتاجها، وشاشة سينمائية ضخمة يستطيع تجعله ينظر إلى مدى توافق موسيقاه مع الفيلم. وفي النهاية وحالما ينتهي من تجهيز اللحن، يقود الفرقة الموسيقية ويتم تسجيل ألحانه التي نسمعها في الفيلم.

أما عن سبب تأخير تأليف الموسيقى حتى انتهاء التصوير، ولماذا لا يكون قبل ذلك، فهو لأن الملحن عندما يرى المَشاهد التي تم تصويرها والأحداث التي رسمها المخرج يعيش ظروف الممثلين ويتعمق في أجواء الفيلم، فتتولد ـ كنتيجة لذلك ـ مشاعر معينة تلائم أجواء الفيلم، هذه المشاعر توجه الخيال الموسيقي في ذهنه، وتساهم في تشكيل الإلهام الذي ينمو داخل مخيلته المبدعة وفقاً للانطباع الذي خرج به من محيط الفيلم. وهذه نقطة مهمة تساهم كثيراً في تجانس الموسيقى مع الفيلم. فالمشهد الحزين مثلاً يجعل الملحن حزيناً ويلهمه ـ بالتالي ـ لتأليف موسيقى حزينة.

إن عمل الملحن الموسيقي في الأفلام ليس مجرد خلق الألحان، بل الأمر أوسع من ذلك. إن الأحداث في أفلام السينما متقلبة ومعقدة وكل نوع يختلف عن الآخر، وعلى الملحن معرفة كيف يوظف الموسيقى في كل نوع من الأحداث والأجواء، فموسيقى الخلفية هي التي تكون هادئة متوارية خلف حوارات الممثلين الهامة من دون أن تصدر إزعاجاً يشتت المتفرج عن العنصر الأساس في المشهد، ولهذا فمن النادر أن نسمع أية موسيقى أثناء مشهد يحوي جدالاً وصراخاً. وعلى العكس من ذلك هنالك موسيقى الحدث عندما تطغى الموسيقى فوق الصورة، وذلك حين يسكت الممثلين وتنطق مشاعرهم، فتكون الموسيقى في هذه المواقف مسؤولة عن خلق الجو العام للمشهد المراد توصيله للمتفرج، فتعبر إما عن أجواء الحزن أو الرومانسية أو الفرح إلى آخره. وهنالك موسيقى النهاية ذات الطابع الختامي، والتي تجعل المشاهدين ـ في معظم الأحيان ـ يعلمون أن الفيلم قارب على الانتهاء رغم أنهم لم يروا عبارة النهاية بعد.

ولكي ننظر لبدايات الموسيقى مع السينما يجب أن نعود كثيراً إلى الوراء ونحو بداية فترة الأفلام الصامتة وذلك في عشرينات القرن الماضي، وقتها لم تكن الموسيقى جزءا من الصناعة السينمائية. بل إن الأفلام نفسها لم تكن تصنع باحتراف في ذلك الوقت بل تأخذ طابع المجازفة والتجربة. لكن ومع المزيد في ممارسة إنتاج الأفلام شعر السينمائيون أن الأفلام بدون موسيقى تبدو فارغة أو ناقصة، أو بعبارة أدق: إضافة الموسيقى إلى الأفلام ربما ستعطي مزيداً من الحيوية. هكذا بدأ الأمر، لم توضع الموسيقى من أجل أن تساهم في إيصال الدراما التي يقدمها الفيلم بل لمجرد التجربة.

والغريب أن الموسيقى كانت تعزف داخل صالة السينما آنذاك وعلى الهواء مباشرة، أي أن المؤلف ومن معه يعزفون بجانب جمهور السينما. والفرقة الموسيقية تكون بسيطة أحياناً، مجرد عازف بيانو وعازفا كمان، لكنها تكون كبيرة جداً في أحيان أخرى ويصل الأمر إلى فرقة أوركسترا. ووقتها كان الأمر متروكاً للموسيقيين في أن يؤلفوا وينظموا المقطوعات في الأفلام كما يشاؤون هم، وأن يضعوها في المشهد الذي يرونه مناسباً. لكن لم يدم هذا الأمر طويلاً فمع مرور السنوات ازدادت صناعة الأفلام تنظيماً، وصار الأمر يعود للمخرج الذي يصنع القرارات، فأصبح هو من يوجه الملحن ويوافق على المعزوفات. كما أن الموسيقى لم تعد تعزف على الهواء بل صارت مسجلة فيما بعد.

ويعتبر المؤلف الفرنسي كاميلي ساينسينز تقريباً أول من قام بكتابة وتأليف موسيقى خصيصاً من أجل فيلم معين، وقبله كان الملحنون إنما يقومون عموماً باقتباس بعض الكلاسيكيات الموسيقية المعروفة مع بعض التغييرات البسيطة. أو يقومون بعزف ألحان تتكرر غالباً في الأفلام الأخرى. الطريف في تلك الفترة أن أحد أشهر الكوميديين في فترة الأفلام الصامتة، وهو شارلي شابلن، قام بتأليف بعض الموسيقى لأفلامه الخاصة مثل فيلم «أضواء المدينة» City Lights.

وفي أواخر العشرينات دخل الصوت إلى الأفلام وصارت الأفلام ناطقة، ولم تعد الموسيقى حرة ووحيدة في الساحة المسموعة بل تشاركها حوارات الممثلين، وهو ما أحدث تغييراً في سلوك الموسيقى فهي تسكت أحياناً لأن الممثلين ينطقون بكلمات هامة أو يصرخون في جدال ما. لكن هذا لا يعني أن دخول الصوت قد أثر بالسلب على الموسيقى، بل ما حدث هو العكس فدخول الصوت الناطق ساهم في الالتفات نحو الموسيقى والاعتناء بها أكثر، وذلك يتمثل في الحرص على اقتناء الأسلوب الموسيقي الملائم لأجواء الحوار، ووضع الموسيقى في الموضع المناسب من الحدث.

ومع بداية الثلاثينات ظهر أمر جديد في الموسيقى، ففي عام 1933 جاء المؤلف الموسيقي العظيم ماكس ستينر وأظهر للجميع كيف يمكن للموسيقى أن تصنع العجب في الأفلام، فللمرة الأولى يؤلف أحدهم موسيقى تتجانس بذلك القدر الرهيب مع الأحداث وتتلاعب بعواطف الجمهور بأثر واضح. ساهم ستينر كثيراً في تشكيل وتأسيس الموسيقى التي نعرفها اليوم، والتي لم تعد مجرد معزوفات عشوائية بل ألحان مدروسة تربط بين الصورة وبين المتفرج. لحّن ستينر أفلاماً أخرى فيما بعد مثل «كازابلانكا» و«ذهب مع الريح» Gone With The Wind وهي أشهر الكلاسيكيات التي ما زالت خالدة حتى يومنا.

وكان انطلاق الحرب العالمية الثانية في الأربعينات عاملاً مؤثراً على الموسيقى، فهي فرصة مناسبة لتعزيز المقطوعات الموسيقية الوطنية، وما إن انتهت الحرب حتى جاءت موجة جديدة مؤلفة من مواهب الشباب غيرت الكثير من ملامح السينما عموماً، ففيما يتعلق بالموسيقى قام المؤلفون الناشؤون بنقلها من طابع السيمفونيات الثقيلة إلى الموسيقى أخف وأسهل. بعدها جاءت الخمسينات وكانت فترة حاملة بالكثير من التغييرات، فقد كان اختراع التلفاز سبباً في تشكيل تهديد للسينما عندما جلب أعداداً كبيرة من موظفيها إلى برامجه.

ومنذ الخمسينات تزايد اهتمام عامة الجمهور بموسيقى السينما أكثر، فأصبحوا يتلذذون بالنمط الموسيقي السينمائي. على سبيل المثال، عندما أطلقت أغنية «نهر القمر» Moon River في الفيلم الشهير Breakfast at Tiffany"s في الأسواق تم بيع مليون نسخة منها وهو رقم قياسي آنذاك. وكانت أوائل الستينات البادرة التي بدأت فيها الأغاني تدخل إلى الأفلام وتؤثر في أحداثها، وذلك بعدما انتبهت الاستديوهات إلى فعالية الأغاني الشعبية والفنانين المشهورين مثل النجم إلفيس بريسلي وكليف ريتشارد وفرقة البيتلز، كل من هؤلاء ساهموا بفنهم لعدد من الأفلام ولاقى ذلك نجاحاً هائلاً.

شهدت الستينات ولادة موجة جيمس بوند مع موسيقاه التي لا تمل من تأليف جون باري، كما انتشرت في هذا العقد ظاهرة الأفلام الموسيقية، أفلام الغناء والرقص مثل «ماري بوبنز» Mary Poppins، و«صوت الموسيقى» Sound of Music. واستمرت هذه الظاهرة حتى نهاية السبعينات عندما بدأ صداها يخبو. وانطلقت بدلاً منها الموسيقى الحالمة الفانتازية، فحالما توفرت القدرات الكومبيوترية ظهر جيل من المخرجين بزعامة ستيفن سبيلرغ وجورج لوكاس يخرجون أفلاماً خيالية، مثل «حرب النجوم» وE.T. والتي كانت تحتاج لموسيقى كفيلة بنقل المشاهد إلى عوالم الخيال، وقد وقف خلف معظم تلك الأفلام الملحن الشهير جون ويليامز، تلقى هذا الملحن 37 ترشيحاً للأوسكار خلال مشواره الفني فاز بخمسة منها.

وتعتبر الثمانينات والتسعينات مفصل هام في مسار موسيقى السينما، فقد جاءت موجة جديدة في الموسيقى تتمثل بالتأليف الموسيقي الإلكتروني، وهي موجة استمرت حتى وقتنا الحاضر، ليس من خلال آلات عزف حقيقية إنما من خلال أجهزة تحوي في داخلها مئات الأصوات والإيقاعات، وأشهر ملحنين هذه الموجة هو هانز زيمرHans Zimmer الذي ما زال متألقاً حتى يومنا، وجاء ـ لاحقاً ـ بألحان ساحرة لأفلام قوية مثل «رجل المطر» Rain Man، و«الأسد الملك» Lion King، و«المصارع» Gladiator. ومن عباقرة الموسيقى المعاصرين جيمس هورنر James Horner الذي يمتلك عبقرية في صنع الألحان الملائكية التي لا يُمل سماعها، وأشهر ألحانه تمثلت في هذه الأفلام: «أساطير الخريف» Legends of the Fall، و«القلب الشجاع»Brave Heart، و«التايتنك» The Titanic. وآخر ألحانه العذبة جاءت في فيلم «عقل جميل» A Beautiful Mind.

إن الموسيقى الممتازة منتشرة بكثرة في أفلام هوليوود، ولكن من النادر أن تعثر على ذلك النوع الساحر من الموسيقى الذي يبقى في ذهنك طويلاً. فالبحث عنه كالبحث عن الذهب بين الحجارة، ولكن إن أردت معرفة تلك الأفلام فستجدها في أفلام هانز زيمر وجيمس هورنر المذكورة أعلاه، إلى أفلام مثل «العراب» The Godfather للملحن نينو روتا، و«الرسالة» The Message لموريس غار، و«سيد الخواتم» The Lord of the Rings لهوارد شور. وهكذا لم تعد الموسيقى في الأفلام مجرد عنصر إضافي كما هو الحال في بدايات السينما بل صار جزءا مهماً له أصوله وأنماطه وأثره القوي على المشاهدين، وأصبحت الأفلام بدونها مملة ولا طعم لها. لا شيء أجمل من تقاطع الفن المسموع مع الفن المرئي.