أجور الصحافة ونفوذهاتخطف الوزراء البريطانيين من السياسة

كوك قدم تغطيات صحافية وميللور تفرغ للرياضة وشورت باتت مراسلة إذاعية وهيغ وقف على خشبة المسرح

TT

الطريق من الحكومة الى الصحافة في بريطانيا، تاريخياً، قصير قطعه بعض صناع القرار في فترات ماضية. ولعل بعضهم يقوم بهذه الرحلة بحثاً عن نفوذ بديل. لكن أياً من «الصحافيين» الجدد ينال لقاء مقال واحد ضعف ما يتقاضى أحد الصحافيين العاديين في سنة. التحقيق التالي يسلط الضوء على نماذج متنوعة لجهة النجاح و«المغامرة»، في تجارب الوزراء البريطانيين السابقين الاعلامية. يكرس وزير الدفاع البريطاني الاسبق مايكل بورتيللو شطراً من حياته المهنية حالياً للتعليق على العروض المسرحية علاوة على الكتابة في السياسة وشؤون الساعة. وقد اعلن النائب المحافظ الذي رُشح قبل اشهر لمنصب رئيس مجلس ادارة هيئة الاذاعة البريطانية ( بي بي سي)، انه سيتفرغ الصيف المقبل للعمل في الصحافة. فبعد سنوات في خضم العمل السياسي الميداني قضى خمساً منها في مجلس الوزراء (1992ـ1997)، كان قد انصرف في العامين الماضيين الى تعزيز حضوره تدريجياً على منابر اعلامية شتى.

وسرعان ما أصبح وجهاً مألوفاً على الشاشة الصغيرة بفضل مشاركته في برنامج «هذا الاسبوع» الحواري السياسي، كما أخذ يوقع منذ اشهر مقالاً اسبوعياً في صحيفة «الصنداي تايمز» التي تعتبره «كسباً كبيراً لنا، فعموده يحظى باهتمام كبير لما يتجلى فيه من تجربة وبراعة في التحليل العميق لقضايا راهنة». وبورتيللو ليس اول او آخر وزير بريطاني اظهر براعات متعددة خارج دائرة العمل السياسي الفعلي. الوزراء السابقون «المغردون خارج السرب» باتوا كثيرين ومعظمهم هذه الايام من أصحاب الباع الطويل في الصحافة.

ديفيد ميللور، وهو زميل بورتيللو في حكومتي جون ميجور ومارغريت تاتشر، كان اكثر راديكالية منه اذ انتقى الرياضة والموسيقى الكلاسيكية ميداناً لمواهبه الاعلامية.

والمفارقة أن الصحافة الشعبية التي يكتب فيها عن الرياضة، هي التي أودت بمستقبله الحكومي حين كشفت النقاب عن علاقة حميمة بينه وبين ممثلة افلام إباحية، الامر الذي اجبره أواسط التسعينات على الاستقالة من منصبه كوزير للتراث الوطني والرياضة. منذئذ، امتهن الصحافة، وانجز برامج كثيرة لاذاعة «كلاسيكال إف إم» وراديو 3 المتخصص بالموسيقى الكلاسيكية والتابع للبي بي سي.

أما كلير شورت، وهي وزيرة التنمية الدولية بين 1997 و2003، فقد تميزت بوسيلة ايصال مساهماتها الصحافية وليس في موضوعها. وأبدت النائبة العمالية «جرأة» مهنية حين وافقت بعد تنحيها على تقديم رسائل اخبارية صوتية مباشرة من مؤتمر كانكون الاقتصادي في المكسيك بين 8 و12 سبتمبر (ايلول) 2003. وقد بث الرسائل برنامج «توداي» (اليوم) في راديو 4 التابع للبي بي سي، الذي يعتبر أهم الفقرات الاخبارية اليومية في البلاد.

بيد أن هذه التقارير لم تلق كثيراً من الثناء. وقال صحافي في البي بي سي لـ «الشرق الأوسط» إن تكليفها بهذه المهمة «كان خطأً». وتساءل الصحافي الذي طلب عدم الكشف عن اسمه «لماذا يضطرون الى الاستعانة بسياسية تمارس الصحافة كهواية ودفع مبلغ كبير لها بدل ان يلجأوا الى مراسلين متمرسين؟». واعتذرت البي بي سي عن عدم التعليق على قيمة مكافآة شورت المادية، إلا ان الوزيرة السابقة دونت في «سجل مصالح الاعضاء» التابع لمجلس العموم انها تلقت مبلغاً «اقصاه 5 آلاف جنيه استرليني، ودفعت البي بي سي نفقاتي». وروبن كوك، الذي خرج من الحكومة العام الفائت احتجاجاً على غزو العراق كشورت، حقق نجاحاً أكبر منها في المهنة الجديدة. والسياسي المخضرم الذي كان وزيراً للخارجية بين 1997 و2001 ثم تسلم زعامة الاغلبية العمالية بمجلس العموم مما ابقاه في مجلس الوزراء لسنتين اخريين، «غير جلده» بنجاح في وقت قياسي. صحيح انه واظب منذ سنوات عدة على نشر عمود اسبوعي عن الخيل والفروسية في صحيفة متخصصة تصدر في اسكوتلندا بلاده الاصلية.

لكن هذه التجربة لم تكن لتعده لكتابة مقال تحليلي بانتظام في صحيفة «الاندبندنت»، ناهيك عن المشاركة المكثفة في برامج تلفزيونية وإذاعية وتأليف ريبورتاجات متكاملة.

وقد ذهب أخيراً الى بوسطن لحضور مؤتمر الحزب الديمقراطي الاميركي كمراسل صحافي، وهو الذي تردد في الماضي على منتديات دولية مهمة للمساهمة في وضع قرارات حاسمة.

وتصدرت صورته الصفحة الاولى لصحيفة الاندبندنت البريطانية في 31 يوليو (تموز) الماضي التي نشرت تقريراً كتبه من بوسطن بعنوان «يقدم (جون كيري) نفسه للخدمة ـ وبوسعه الآن ان ينقذ اميركا». وإذا افقدته الاستقالة نفوذه السياسي، فإن حضوره الاعلامي أمده بنفوذ «السلطة الرابعة». وكثيراً ما تتناقل وكالات الانباء ووسائل الاعلام البريطانية ما يقوله كوك في مقالاته عادة بخصوص الحرب، الامر الذي يزيد احياناً من احراج بلير. ولا يغيب وليام هيغ الذي فاز في سن السادسة والثلاثين بزعامة حزب المحافظين اثر الهزيمة الساحقة التي الحقها به حزب العمال عام 1997، عن الوسط الاعلامي، فهو يعد صفحة في صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد» الشعبية الاسبوعية، تقاضى لقاء عقد لتقديمها طوال ستة اشهر بدءاً من ديسمبر (كانون الاول) 2003 مبلغاً يتراوح بين 90 و95 ألف جنيه استرليني، حسبما جاء في سجل مصالح النواب.

كما دأب على نشر مقالات تحليلية في صحف شتى، وشارك في مناظرات تلفزيونية ثنائية منتظمة مع خصمه السياسي اللدود الوزير العمالي السابق توني بين. وقد استبعد مراقبون اخيراً هيغ الذي كان وزير دولة لسنتين قبل ان تُسند اليه حقيبة شؤون ويلز عام 1995، من قائمة المرشحين لزعامة المحافظين. وعزوا ذلك الى ان دخله المرتفع من الصحافة سيدفعه الى رفض الزعامة التي تعود عليه بدخل اقل بكثير. ولا ننسى ان هيغ، 42 عاماً، وخصمه بين، 79 عاماً، بدآ قبل فترة تجريب نمط من الممكن تسميته «فناً اعلامياً» لم يسبقهما أحد اليه. فقد أخذا يواجهان الجمهور من على خشبة المسرح في حوار سياسي مباشر يتناول قضايا الساعة. ويتوجه كل منهما بين فترة واخرى في جولات الى مناطق شتى في بريطانيا، تشبه تلك التي دأبت الفرق المسرحية، والممثلون الكوميديون ممن يؤدون عروضاً منفردة، على القيام بها منذ زمن طويل.

أما وزيرة الدولة السابقة للشؤون الداخلية آن ويدكومب، فوجدت لنفسها موقعاً آخر في عالم الصحافة. والسياسية التي كانت بين 1995 و1997 نائبة لوزير الداخلية، تقدم من اسابيع الاجابات لقراء صحيفة «الغارديان» ممن يكتبون لزاوية «رسائل الشكوى» الاسبوعية. واضافة الى حضورها التلفزيوني القوي، ألفت النائبة المحافظة ثلاث روايات لقيت رواجاً لا بأس به، مع انها خلت من الاباحية، وذلك خلافاً لروايتي وزيرة الدولة السابقة لشؤون الصحة إدوينا كاري.

بقي ان الرحلة بالنسبة للسياسيين البريطانيين كانت احياناً في اتجاه معاكس، ففيما تسلم اللورد ايان غيلمور رئاسة تحرير مجلة «سبيكتاتور» لسنوات في الخمسينات قبل حوالي 25 عاماً من وصوله الى حكومة تاتشر وزيراً للدفاع، ها هو خلفه الحالي في المجلة بوريس جونسون يدخل مجلس النواب بعد سنوات من اسناد رئاسة تحريرها له.