اختلاط اللغات واستحالة التواصل ولامبالاة المجتمع

«الشفرة المجهولة».. فيلم يصور الواقع الآخر للمهاجرين في أوروبا

TT

عبد الهادي الراوي ميخائيل هانيكِه مخرج نمساوي وجودي الفكر، يعيش ـ الآن ـ في فرنسا. ويحتل اللاجئون في فيلمه الجديد «الشفرة المجهولة» مساحة مهمة، لكن من يعرف هذا المخرج يدرك أنه لا يمكن أن يهتم بمشاكل اللاجئين بالمعنى المتعارف عليه. فهو مهموم بمجتمع لم يعد يعرف أن يحب أو أن يكره بصورة مفهومة. وجاءت تسمية الفيلم ـ على حد قول المخرج ـ من ذلك الإحباط الذي يشعر فيه في باريس، من كثرة الشفرات التي ينبغي أن يعرف المرء حلها، ليستطيع العيش هناك. فلكي تدخل إلى البناية التي تعيش فيها، عليك أن تعرف شفرة قفل الباب، ولتستعمل كارت التليفون عليك أن تعرف شفرته، ولتستعمل الفاكس أو الكومبيوتر أو أي جهاز عليك أن تعرف شفرته وأن تظل تتذكرها. وهو يشبِّه هذه الحالة بمصيدة يمكن أن تنقض في أية لحظة. قد تكون التسمية جاءت من هنا، لكن ذلك ـ بالطبع ـ ليس موضوع الفيلم. يتحدث الفيلم عن إفرازات المجتمع البعد الصناعي: سائق سيارة أجرة من مالي، بدون أوراق إقامة، كما يبدو، وموسيقي اسود اسمه أمادو، وشحاذة رومانية اسمها ماريا، تعود إلى باريس ـ خلسة ـ بعد كل مرة تبعدها الشرطة إلى بلدها، وصبي هارب من مزرعة أبيه، ومصور فوتوغرافي يصور ـ في العادة ـ في جبهات القتال (لم يسلم من تجربة الرهائن في أفغانستان) اسمه جورج، وصديقته الممثلة آن. كل منهم يمارس حياته اليومية الخانعة، سواء أكان معدما أم ميسور الحال، يسير كل منهم في خط لا يتقاطع ـ تقريبا ـ مع خطوط الآخرين. وكما هي العادة في أفضل أفلام هذا المخرج، يغوص المحتوى إلى العمق، محولا الواقع المعاصر المصوَّر موضوعيا، لكن من غير ما لا مبالاة، إلى استعارة واسعة. لهذا لم يستطع المخرج أن يجيب على سؤال الصحافيين «عن ماذا يتكلم الفيلم؟». كما رفض أن يعطي أهمية خاصة لمشكلة معينة من بين المشاكل الاجتماعية المعالجة بدقة، حين قال «لا بل أكثر من ذلك، فأنا أحسب أن فيلم «الشفرة المجهولة» أكثر قوة من كل أفلامي، وهو عصي على هذه العملية (يقصد تحديد درجة أهمية مشكلة معينة نسبة إلى أخرى) ويصعب حصره في موضوع معين واحد. فحين نحدد الفيلم بأكثر الأفكار المطروحة فيه وضوحا، أي اختلاط اللغات البابلي، واستحالة التواصل، ولامبالاة المجتمع الاستهلاكي، والخوف من الأغراب، فلن ننجو من الفجاجة والتبسيط». ولا أظن أن هانيكِه يتلاعب هنا بالكلمات أو يتحاذق. ذلك أن الباناراما المتعددة الشخوص لدراما الحياة الأوروبية المعاصرة لا توصل إلى تفسير للحالة، قد حدده المؤلف مسبقا، ولا إلى الشفرة المطلوبة لفهمها. فالشفرة الرئيسية، المخفية أكثر من كل المشاكل الواقعية، التي يعيشها الأبطال ـ في الحقيقة ـ لا يعرفها المخرج. ولعل درامية الفيلم الحقيقية تكمن في العرض الصريح والنبيل لعدم المعرفة تلك. عوَّدنا ميخائيل هانيكِه في أفلامه على طريقته الخاصة في السرد، وهي أن يكدس مشاهد تبدو بريئة، مبنية بدقة بالغة، بحركات وحوارات حياتية ـ يومية. ثم يعقبها انفجار العنف غير المسوغ وغير المفهوم، مع أنه قد تنامى أمام أعيننا، مما يشكل صدمة شديدة للمتفرج. لكن الذي يصدم المتفرج في فيلم «الشفرة المجهولة» هو غياب الانفجار غيابا تاما، كما يصدم الصمتُ المطبقُ السمع. أما الذين شاهدوا «الألعاب المسلية» ويتوقعون مشاهد العنف الفيزيائي، فقد أعد لهم هانيكِه طعما، هو المشهد الأول المصور في لقطة واحة:الصبي الهارب من مزرعة أبيه، يلتقي الممثلة آن ـ صدفة ـ في الشارع ويطلب منها أن تعطيه مفتاح شقتها (يبدو أنهما يعرفان بعضهما بعضا معرفة سطحية) لينام، تعطيه المفتاح وتشتري له فطيرة وتذهب إلى عملها. الصبي يأكل الشطيرة ويرمي الكيس الورقي في حضن شحاذة تفترش الرصيف (ماريا الرومانية). يتطوع شاب أسود (أمادو) للدفاع عنها، ويطلب من الصبي أن يعتذر لها. وينتهي ذلك بحضور الشرطة إلى المكان. وهذا المشهد هو الوحيد في الفيلم الذي ينبثق فيه التوتر بشكل فيزيائي. فلا أحد في الواقع الحقيقي للفيلم يضرب أحدا، ولا يعتدي أحد على أحد، ولا يهدد أحد أحدا. هكذا يبدأ الفيلم، ثم يفترق الأبطال كل لحال سبيله، من غير أن يحصل شيء لأي منهم، سوى ماريا التي نرى الشرطة ـ لاحقا ـ تضعها في طائرة لتعيدها إلى بلدها. وهذا لن يسبب لها سوى بعض المتاعب، إذ سنراها تعود إلى باريس خلسة. يتكون الفيلم من خطوط متوازية بعدد أبطاله تقريبا، لا تلتقي إلا عند المتلقي. وتأكيدا على توازي الخطوط يربط المخرج ـ أو يفصل بالأحرى ـ المشاهد بشريط اسود.

الفيلم ـ في العادة ـ يتكون من مجموعة من اللقطات مرتبطة ببعضها. ويكوِّن ارتباط لقطتين ـ في العادة ـ معنى ثالثا هو غير معنى اللقطة الأولى أو معنى الثانية، كما يقول ازنشتين. لذا تتأثر المشاهد مع بعضها البعض، بغض النظر عن علاقاتها الموضوعية. أما في فيلم «الشفرة المجهولة» فالمشاهد مفصولة عن بعضها البعض، بفاصلة سوداء تحفظ لكل مشهد استقلاليته. مما يخلق انطباعا لدى المشاهد بأن الأبطال كل في عالمه الخاص المغلق. فمصور ضحايا الحروب عديم المشاعر في الحياة الطبيعية، وصراخ الطفل في شقة جيرانه لا يهمه على الإطلاق. وتعاطف الفقراء مع بعضهم البعض لا يعدو أن يكون أسطورة. وعواطفهم تجاه بعضهم البعض، ليست أدفأ ولا أبرد من عواطف الأغنياء تجاه بعضهم البعض. فلا توجد في الفيلم لقطة واحدة أو حوار واحد يدعو المتفرج إلى الشفقة والتعاطف والتعاضد الاجتماعي. فالفقراء لا يستحقون المشاعر الطيبة، كما لا يستحقها الموسرون. لا أحد يستطيع مساعدة أحد، ولا أحد يحتاج لمساعدة أحد. لا أحد يستطيع إنقاذ أحد، ولا أحد يستطيع تدمير أحد، فالجميع منفصلون عن بعضهم البعض كما يفصل الظلام بين مشاهد الفيلم.