أوبرا «حب البرتقالات الثلاث» لبروكوفييف في تسجيل جديد

TT

قائد الاوركسترا الروسي فاليري جيرجييف مع فرقته الشهيرة «كيروف» يواصل استكمال أوبرات بروكوفييف وتسجيلها على اسطوانات شركة Philips الألمانية، وسبق أن قدم «الحرب والسلام» و«المقامر» و«خطبة في دير» و«سيميون كوتكو»، ولقد تحدثتُ عن العملين الأخيرين في حقلي هذا مشيراً إلى رغبة بروكوفييف فيهما أن يحقق موقعاً موسيقياً في بلده بعد عودته من منفاه الأميركي. ولكن سمعة المؤلف برزت قبل ذلك بكثير فقد استجاب لدعوة المخرج الطليعي مايرهولد ـ قبل ثورة اكتوبر بفترة قصيرة ـ في تأليف أوبرا عن نص قديم وضعه ارستقراطي من فينسيا يدعى غوزي عام 1761. وكان هذا النص قد اقترحه الشاعر الشهير أبولينير. وهو مسرحية بعنوان «حب البرتقالات الثلاث»، ذات طبيعة فانتازية. وهي تلتقي في لا واقعيتها مع مطامح بروكوفييف الطليعية المجددة والمتأثرة بفورة «المستقبلية» وشعارها المعروف «صفعة في وجه الذوق العام». حين غادر بروكوفييف بلده بعد الثورة مباشرة، حاول العيش في اميركا كعازف ماهر على البيانو أول الأمر، ولكن طموحه المتوقد دفعه لمحاولة التأليف الأوبرالي، الذي سبق أن جربه في بلده. وبالرغم من أن سنوات بلده المضطربة لم توقف تدفق الفن الطليعي والمحاولات التجريبية بعد، إلا أن أميركا أفق أكثر رحابة. فباشر بوضع موسيقاه لمسرحية «حب البرتقالات الثلاث» وحقق لها عرضاً ناجحاً، بعد عثرات، عام 1921، ثم بدأت سياحتها في أوروبا بعد أميركا، حاملة اسم بروكوفييف مضاءً بالشهرة إلى بلده.

بروكوفييف (1891 ـ 1953) في هذا العمل الريادي سبق كل الاجتهادات التي جاءت في ما بعد على يد بريشت، أو في «مسرح القسوة» أو «مسرح اللامعقول». فالأوبرا أبعد ما تكون، في كل تفاصيلها، عن الواقع، تستخدم شخصيات فانتازية، هزلية في عالم شبه رمزي يختلط فيه السحر وكائنات الخرافة. وفي الجانب الموسيقي ألغى مادة «الأغنية» الأوبرالية المستقلة التي تعتبر عماد الأوبرا في كل مراحلها السابقة، وفضل عليها الحوار السريع الحيوي، الذي يلائم أحداثها الخيالية.

الحكاية تتحدث عن أمير معلول بوهم المرض، يتوسط طرفين، أحدهما معاد يريد أن يسلبه سلطته، وآخر مدافع وراعٍ. وكلا الطرفين معزز بمساعدين من السحرة والجن. واحد يغويه إلى الغرق في التراجيديا ليميته غماً وبكاءً ، وآخر إلى الكوميديا ليحييه بالضحك والتسلية. ثم يُدفع إلى البحث عن حبه في البرتقالات الثلاث، إلى أن يحصل على واحدة تصبح زوجته بعد محن غرائبية.

النص الشعري بسيط ولا يشغل الذهن والذائقة كثيراً. ولكن عماد الحيوية على تسارع وتنوع وتداخل الاحداث التي لا تكاد تُفصل عن تسارع وتنوع وتداخل الموسيقى، جعلت بروكوفييف يستبدل الكورس المعتاد بخمس مجموعات تتجاذب التأثير في الأمير، هي «الكوميدية» و«التراجيدية» و«الغنائية» و«الرأس الفارغ» و«الطور الغريب»، دون أن يترك كفة راجحة. فهو لا يريد أن تنطوي الأوبرا على كثير من الدلالات وراء الظاهر الموسيقي ووراء الظاهر الذي يمتع البصر حتى لحظات الحب لا يتركها تمتد بل سرعان ما يفاجئها بارباك الكورس. هذا الهوس، بتحطيم قواعد العرف الموسيقي كان شاغل بروكوفييف في هذه الأوبرا الرائدة بصورة خاصة. وهو أمر لم يُستقبل برضا من قبل النقاد آنذاك. الا أن هذه الاوبرا ظلت الأكثر شعبية فهي خفيفة الظل، وحيوية في بنائها الاوركسترالي الذي يخلو من الرتابة والكليشية، والممتلئ بالمفاجآت.

قائد الأوركسترا «جيرجييف» إذن، يقدم أوبرا بروكوفييف الخامسة، وهي الثانية في التسلسل التاريخي. بعد «المقامر» (عن رواية لدستويفسكي)، التي كانت الأولى. ومع فرقته الروسية «كيروف» ومغنيه الروس، يبدو اليوم أبرع من يملك أن يقدم لمحبي الأوبرا هذا التراث الروسي الأخاذ ولقد سجلتها دار Philips عن عرض حي قدمته الفرقة في مدينة امستردام.

عن أعمال البيانو المنفرد للروسي الآخر سكريابن كتب أحدهم يقول: انها كانت الرائدة لـ «رؤى بروكوفييف الموسيقية الهاربة»، فلقد توفي سكريابن عام 1915 ولم يتجاوز الثالثة والأربعين. وكان مثله طموحاً في تجريبيته واختراقه القاعدة، ولكن باتجاه الدلالة السرية البعيدة الغامضة. الأمر الذي لم يطمئن إليه بروكوفييف كثيراً. كان سكريابن، مثل بروكوفييف، عازف بيانو ماهراً وكان مأخوذاً بالنزعة التصوفية، وطموحاً بتأليف أعمال ضخمة كالعمل السيمفوني الذي لم يكمله (سبق أن صدر تحت اسم «استعدادات للغموض الأخير» وتحدثنا عنه)، ولكنه رغم ميله للضخامة كان سكريابن بطبيعته منمنماً ونساجاً للتأليفات الصغيرة، خاصة على آلة البيانو. هذه القطع التي قال عنها أحد النقاد «أشبه بمنقار عصفور» شكلت أروع جانب في تراثه الموسيقي، منها قطع في فن «السوناتا» وهي عشر، وفي فن «أتيود» (24)، وفن برليود (85)، وبعض الفنون الأخرى.

عازف البيانو البريطاني بيرس لَيْن، وهو موسيقي وكاتب معروف اليوم، سبق أن قدم (24 أتيود) عن دار hyperion. ونجاح محاولته مع «سكريابن» أثار حماسه وحماس الدار إلى تقديم كل أعمال «البرليود» في اسطوانتين.

هذا الاسم، الذي يعني مفتتحاً، ظل مرتبطاً بفكرة تهيئة مزاج الجمهور لاستقبال العمل الكبير حتى القرن التاسع عشر. ولكن بفضل شوبان ورحمانينوف و ديبوسيه تحول هذا الفن الوسيط إلى فن قائم بذاته، منتفعاً من فكرة الارتجال التي ظلت جوهرية فيه، بالمقارنة مع «السوناتا» التي تعتمد معماراً صارماً.

أول «برليود» يبدأ عام 1889، يوم كان المؤلف في الرابعة والعشرين، والأخير عام 1914، أي قبل وفاته بسنة واحدة. الأول لا يتجاوز 55 ثانية، وهذا شأن كثير منها، وكأن سكريابن يحدق في حبة رمل، تلك التي رأى الشاعر وليم بليك فيها العالم أجمع فهي تبدأ بلحن يشبه نداء بوق. وكأنها تهيئة لدخول عالم مليء بالاسرار والمفاجآت تفلت من بين أصابع العازف الماهر.

Prokofiev: Love For Three Oranges (Philips) Scriabin: The Complete Preludes (hyperion)