وجوه وشخصيات ومشاهد الحياة اليومية بمعرض جماعي للصور الفوتوغرافية في تونس

TT

يرى الباحث والمفكر الفرنسي «رولان بارت» أن ما يجعل الصورة الفوتوغرافية تتصل بالفن هو بعدها المسرحي وليس بعدها التشكيلي. فالكاميرا او الة التصوير قد انتجت اللوحة الافاقية والصورة الفوتوغرافية والصورة الشفافة وهذه ثلاثة عناصر تنتمي لفنون الخشبة. وحسب رأي هذا الناقد دائما فان متانة العلاقة بين الصورة الفوتوغرافية والمسرح انما تعود الى معطى هام ومتفرد يتمثل في الموت. اذ ان هناك صلة وثيقة ومتجذرة تربط المسرح بعبادة الموتى. فالممثلون الاوائل كانوا ينفصلون عن مجموعاتهم التي ينتمون اليها عن طريق لعب ادوار الموتى، فطلاء الجسد بمساحيق (الماكياج) كان يعني تقديم ذلك الجسد باعتباره ميتا وحيا في الان نفسه. ومن هنا فانه يمكن اعتبار الصورة الفوتوغرافية بمثابة المسرح البدائي من حيث انها تشبه اللوحة المقنعة التي نشاهد من خلالها الموتى، أي اولئك الذين فاتوا وزالوا، ولكننا نظل نتشبث باطيافهم من خلال ما نصبغه عليهم من مساحيق والوان. ويوافق هذا الرأي تقريبا مفكر فرنسي آخر وهو مارك جيوم الذي يعتقد بان الصورة الفوتوغرافية انما هي اداة من ادوات التحنيط باعتبار انها تصلح لايقاف الزمن وتثبيته في لحظة بعينها كما انها تفيد في تأطير المكان وتحديده ضمن حيز دقيق. وبالتالي فان الموضوعات التي يتم تناولها في تلك اللحظة وفي ذلك الاطار تظل محنطة وثابتة تنظر اليها العين نظرة استدراك ويضعها الذهن في خانة الفائت والسابق والماضي.

لا نريد عبر هذين الاستشهادين انجاز دراسة عن الصورة الفوتوغرافية، بقدر ما نتلمس السبيل الى تقديم معرض جماعي للصور الفوتوغرافية تحتضنه العاصمة التونسية خلال هذه الايام. ويأتي التمهيد اذن كنوع من الاحتفاء النقدي بهذا الحدث الفني الذي يوفر مجالا كبيرا للحديث عن الصورة الفوتوغرافية من حيث هي قن وتقنية اولا، ثم من حيث هي اداة ما فتئت المجتمعات العربية ترى من خلالها ذاتها سواء وهي تصور نفسها او هي تصور من قبل الآخر. ولا يسعنا في هذا الاطار الا التذكير بالكم الهائل من الصور المنتجة عن المنطقة العربية المغاربية من قبل المستعمر الفرنسي والتي مازالت ملامح كثيرة منها تتردد الى اليوم عبر البطاقات البريدية وادلة السفر وعبر بعض الصور المستوحاة من ذينك الرصيدين والتي تبث هنا وهناك على بعض القنوات التلفزية او عبر بعض الاشرطة السينمائية.لكن ذلك لا يعني ان هذا المعرض الذي نحن بصدد الحديث عنه يندرج في هذا السياق. بل على العكس من ذلك فهو يحاول كما سنرى من خلال بعض تجاربه تجنب الوقوع في ما هو سائد ومألوف ضمن هذا المجال ونعني بذلك خاصة تلك التناولات الاستشراقية والاغرابية والسياحية التي ظلت تميز دائما تصوير العالم العربي ورسمه فوتوغرافيا. يتنزل المعرض، من الناحية التنظيمية، في اطار البرنامج العام للانشطة الثقافية التي يشرف على تنفيذها اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين بفضاء دار الثقافة المغاربية ابن خلدون بالعاصمة التونسية. اما عن بعده الجماعي، فهو ينبني على مشاركة ثمانية فنانين هم علي التوالي : ابراهيم البهلول، رشيد الفخفاخ، منجي الكليتي، محمد المورالي، محمد الهادي العائب، محمود شلبي، عمار ضية، الحبيب عزوز، محمد علي السعدي و بنور مشفر. يعرض كل واحد من هؤلاء بين ثلاثة واربعة اعمال تتوزع موضوعاتها بين المشاهد الطبيعية والمشاهد المعبرة عن الحياة اليومية والصورالمتضمنة لوجوه وشخصيات. من عامة الناس. اما من ناحية الشكل فعلى الرغم من اعتماد تنوع الالوان في بعض الاعمال فان الابيض والاسود هما اللذان ميزا اغلب التجارب. فالحبيب عزوز مثلا يراوح في اعماله الثلاثة بين الاضاءة والظلام في ما يتناغم الى حد كبير مع تقنية اخراج المشاهد المسرحية والسينمائية وخاصة من ناحية اعتماد العمق الافتراضي للصورة وجعل الموضوعات المنتشرة عليها تبدو غائمة وغائرة لا هي تجرؤ على الافصاح علنا عن دلالاتها ولا هي توحي بانها تنزع الى التخفي والامحاء والانسحاب تماما من المشهد. وهو نفس الاسلوب الذي يتوخاه تقريبا احمد الزلفاني ولكن باعتماد تقنية مغايرة، فهذا الفنان لا يصور فقط بل هو يرسم ايضا. ولعل ذلك ما جعله يسعى دائما الى توحيد التقنيتين بهدف صياغة الاثر الفني المتوحد او المتكامل. ففي لوحة له بعنوان «المتنكرة» يلتقط الزلفاني صورة جانبية لامرأة تبدوا بثياب السباحة لكنه لا يلبث ان يضع عدسته جانبا ويشرع في طلي وجه تلك الانثى بمساحيق فرشاته فيصنع لها عبر ذلك ستارة من الشعر تنزل على مقدمة وجهها وكأنما يحاول حث تلك المراة على التنحي من امام المرآة التي كانت تقف امامها والمجيء للوقوف امام عدسته التي ظلت ترصد مفاتن جسدها غير بعيد عن الفرشاة.

الفنان عمار ضية بدوره يتوخى هذا المسلك في حجب الوجوه وتعريتها، لكن باعتماد التصوير فقط أي دون اعتماد الرسم، ففي لوحة له بعنوان استراحة، يقدم مشهدا لثلاثة رجال مسنين يجلسون على مدرج لمبنى تراثي يسمى «قصر» ويقع بجهة تطاوين من الجنوب التونسي. هؤلاء الرجال، أو دعونا نقول، هؤلاء الأبطال الثلاثة يتدثرون ضمن شكل محكم و متناسق ببرانيسهم الطويلة، يكشفون عن بعض من وجوههم ويخفون ما تبقى منها بطريقة تسمح بتصنيفهم ضمن خانة النكرات من اولئك الذين يكفي للتعرف عليهم ان ينزاح اللحاف عن الوجه قليلا او ان ينحل البرنس بعض الشيء فينكشف عبر تلمس خاماته او عبر تتبع خط الوشم الذي كان منسدلا عليه سر ابطال هذا المشهد الذين جعلنا عمار ضية نحسدهم على طمأنينتهم الواضحة كما جعلهم ينظرون الينا من تحت برانيسهم بعيون يملأها الدفء واخرى ملأى باللامبالاة.