«ريجوليتو» بدار الأوبرا المصرية .. بنية درامية رومانسية ونقد للطبقة الحاكمة

TT

يعتبر المؤلف الموسيقي جوزيبي فيردي (1813-1901) أحد عمالقة فن الأوبرا الايطالية في القرن التاسع عشر، وعادة ما تدرج معظم أوبراته في الريبورتوار السنوي لمسارح الاوبرات في جميع أنحاء العالم.

ومن أشهر أوبرات فيردي «التروفاتوري» 1853 و«لاترافياتا» 1853 و«عايدة» 1871 و«عطيل» 1887 و«فالستاف» 1892 و«ريجوليتو» 1851، وهي التي عرضت اخيرا على المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية وقدمتها فرقة وكورال أوبرا القاهرة وأوركسترا أوبرا القاهرة بالتعاون مع المعهد الثقافي الايطالي بالقاهرة.

قاد الأوركسترا المايسترو الايطالي جيورجيو كروتشي بالتبادل مع المايسترو البرتغالي إيفان فيليف، اخرج العرض البرتغالي بلامين كارتلوف الذي يعد من أشهر مخرجي الأوبرا المعاصرين والمتميز برؤيته المتجددة دائما للمسرح الموسيقي.

وقد اخذت أوبرا ريجوليتو عن مسرحية فيكتور هوجو التاريخية «الملك يمرح» وكتب لها الليبريتو (فرانسيسكو ماريا بياف) بالتعاون مع جوزيبي فيردي. وقد عرضت هذه الاوبرا للمرة الأولى بمدينة فينسيا الايطالية في عام 1851، ونالت نجاحا مبهرا استمر حتى الآن بنفس القوة والمتعة، ومن اهم ما يميز أوبرا فيردي اعتمادها على منهج محدد، يتناول الاحداث الدرامية من أقصر واوضح طريق دون اللجوء لانتهاج الرمزية، وهو وإن التزم بحرفية الاوبرا الايطالية الغنائية الا انه بحكم موهبته الكبيرة وعصره الرومانسي استطاع ان يبدع الحانا موسيقية تجسد الدراما تجسيدا عميقا، وتتميز موسيقى فيردي بالغنائية وإعلاء الصوت الإنساني الغنائي، الذي يعتبر احد أهم أدوات المؤلف الموسيقي الايطالي للتعبير العاطفي. وتشهد اوبرا ريجوليتو على التطور الموسيقي الذي احرزه فيردي، عندما اشهر فيها اهتماما متزايدا بالصيغة وخلق الشخصية الموسيقية. وقد حفلت هذه الاوبرا بالدفء الانساني والقوة، وهو ما كانت تفتقده أوبرات بقية المؤلفين المعاصرين له. تتكون اوبرا ريجوليتو من مجموعات متعددة من القوالب الغنائية، مثل الآريا والثنائي والثلاثي والكورال والختام جمعهم فيردي في نسق موسيقي درامي متكامل. وتعتبر بفصولها الثلاثة نموذجا للمذهب الرومانسي الذي يعد المؤلف الفرنسي فيكتور هوجو من أشهر رواده. تعتمد البنية الدرامية الاساسية على نسج حبكة رئيسية وفرعية متداخلتي الصراع، بهدف إعلاء شأن الفرد وحريته وذاتيته في الكون وتمجيد الحب الرومانسي الذي يضحي فيه المحب بكل شيء في سبيل محبوبة حتى الموت، وفي هذه الاوبرا تقدم الدرما نقدا اجتماعيا سياسيا لاذعا للطبقة الأرستقراطية الحاكمة، وكان لابد طبقا لمفاهيم المذهب الرومانسي ان ينتصر الحب على الواجب دائما فكاكا من قمع الرؤية الواحدة مهما كانت التضحيات. ففي قصر دوق مانتو (التينور فرانشسكو ماركاتشي بالتبادل مع التينور جورج ونيس) المعروف بحبه إغواء زوجات رجال حاشيته المنافقين وبناتهم، يفخر وسط جو صاخب من الضحكات والسخرية والترف المبالغ انه منذ ثلاثة اشهر وهو يتعقب فتاة جميلة تسكن بيتا متواضعا يدخله رجل غامض كل ليلة، ويبدأ ريجوليتو (الباريتون الايطالي الفيو جراسو) المهرج الأحدب التندر على أحد الازواج المخدوعين من الحاشية، الذي يقدم مرثية حزينة لشرفه الضائع ويصب نيران لعنته على الأحدب ريجوليتو، واستكمالا لعرض مهازل ومدى انعزال هذه الشريحة السياسية الحاكمة عن أحوال الشعب، يحاولون تسلية وقتهم وإرضاء تفاهتهم بالتلصص والتلاعب بأسرار ومشاعر كل من حولهم، ومن بينهم ريجوليتو الذي يعتقدون انه يعيش مغامرة عاطفية مع الفتاة الجميلة التي يقيم معها، ولا يعرفون انها جيلدا (السوبرانو اميرة سليم/ تحية شمس الدين)التي تبناها واخفاها عن العالم وهي لا تعرف عن أبويها أو عن مهنة ريجوليتو شيئا، وبالمثل لا يعرف ريجوليتو ان الدوق الذي قابل جيلدا الرقيقة متنكرا اختطف مشاعرها وبادلته حبا ساميا بلغ درجة التقديس ثم يختطف رجال الحاشية جيلدا معتقدين انها عشيقة ريجوليتو ويهزأون منه عندما يجعلونه يشارك في الاختطاف بحيلة وضيعة دون ان يدري ويذهبون بالفتاة لقصر الدوق، وينجح ريجوليتو في تحرير جيلدا ويقرر الانتقام من الدوق، فيكلف السفاح سبارافوتشيل (الباس ـ باريتون اشرف سويلم) بقتل الدوق بعد استدراجه لمقابلة شقيقته الغانية مادلينا (المتزو سوبرانو بويكا فاسيليفا/ هالة الشابوري) لتشهد جيلدا على خيانة حبيبها الوحيد. وتتسبب العاصفة في عودة جيلدا المصدومة في حبها من رحلتها لمدينة فيرونا كما اتفقت مع ريجوليتو، فتستمع مصادفة للغانية وهي تستحلف شقيقها الا يقتل الدوق الذي احبته ويستبدله بأول من يدخل الحانة. وكعادة المحبين الرومانسيين تقرر جيلدا التضحية من اجل حبيبها رغم خيانته لها، وبالفعل تقرر دخول الحانة فيقتلها السفاح في نهاية ميلودرامية مفجعة.

وفي ذروة نشوة ريجوليتو بلذة الانتقام تتحقق لعنة الزوج المخدوع، ويفاجأ أن ابنته جيلدا الجميلة هي الضحية التي فارقت الحياة بين ذراعيه، وقد استطاع فيردي بموسيقاه الشامخة المليئة بدفقات المشاعر الانسانية المتوالية، التعبير ببراعة شديدة عن الجو النفسي لطبقات الشعب المتناقضة وعن التركيبة الدرامية المختلفة لكل شخصية حسب تغيرها في نسق تطور الصراع الدرامي القوي، كما وصل فيردي في المشهد الاخير لدرجة رفيعة من توظيف المهارة واستطاع ان يرسم بموسيقاه الشجية جو الكآبة والتوتر والتطاحن ومرارة الصراع الداخلي للمحبين ونثر ببنائه الموسيقي الجميل رائحة الخيانة والموت داخل القلوب. وفي دلالة على مدى موهبة فيردي وخياله الطلق نجده قد وضع مؤثرات صوتيه توحي بالبرق عن طريق عزف الفلوت، كما استخدم اصوات الكورال بدون كلام لتجسيد صوت الرياح.

وقد انتزع اداء الفنانين الممتع الذي يمزج بين تمكن الصوت وعمق التعبير الدرامي اعجاب جمهور الاوبرا الغفير، وقد نال الباريتون الايطالي ألفيو جراسو تحية خاصة من التصفيق الحار لادائه وقدرته على تلوين صوته طبقا لمقتضيات الصراع الدرامي بسلاسة كبيرة رغم صعوبة النقلات الدرامية لدوره، استطاع المخرج البرتغالي بلامين كارتالوف تقديم عرض فني قوي، سيطرت فيه لغة الهارمونية على كل مفردات السينوغرافيا، كما قدم نموذجا جيدا لتصميم الميزانسين داخل قصر الدوق رغم الكثرة العددية الكبيرة للحاشية مستخدما سلماً متعدد الطبقات يتناسب مع عالم القصور مثبتا الدوق غالبا في اعلى نقطة دون الانغماس في الحاشية، وهو ما اعطاه براحا في توزيع المغنيين الابطال والكورال والتنقل عبر منظور تشكيلي متعدد الاعماق، وظفه جيدا حسب اللحظة الدرامية في ظل اضاءة مبهرة تعكس سعادة حياة القصور وبريقها الزائف، وساندته رقصات (أرمينيا كامل) التي عبرت عن روح شيطان العبق واللهو جيدا، وازياء (سالفاتوري روسي) بألوانها وخطوطها التي تعبر عن الطبيعة الايطالية وتركيبة الشخصية وطبيعة الفترة التاريخية، مرتكزا على الالوان الساخنة.