شارل باتيه .. نابليون السينما في فجرها الأول

TT

يقال إن لويس لوميير «مخترع السينما مع أخيه» قال لمصوره الذي يعمل معه ذات يوم: «أنت تعلم بأن الوظيفة التي اعرضها عليك ليس لها مستقبل فهي تشبه عمل لاعبي السيرك يمكن ان تدوم ستة شهور أو سنة وربما أكثر أو أقل». ربما كان لوميير مترددا بشأن هذه الصناعة ومستقبلها وهذا تحديدا ماتجاوزه شارل باتيه(1863-1957) منذ البداية لكي يكون امبراطوريته الضخمة.

لقد ارتبط اختراع السينما وبدايتها بالفرنسيين الأخوين لوميير بسبب اختراعهما آلة العرض التي سمياها «سينماتوغراف» مستفيدين من أبحاث سابقة في هذا المجال أهمها ما كان يعمله المخترع الأشهر الأميركي توماس أديسون . ففي الثاني والعشرين من مارس سنة 1885 كان الأخوان لوميير قد استأجرا مقهى في باريس لعرض أفلامهما التي لايتجاوز الواحد منهما دقيقتين مثل «العمال يغادرون مصنع لوميير» ليسجلا بذلك بداية العهد السينمائي والفن السابع. الا ان المفارقة في الأمر أن فرنسيا آخر كان أكثر ثقة وتفاؤلا بهذه الصناعة الفنية الجديدة واليه سيعود السبب الرئيسي في ترسيخ هذه الصناعة وتطويرها ونشرها في العالم.

فقد قام شارل باتيه رجل صناعة الفوتغرافيا السابق المولود سنة 1863 مع اخيه اميل بانشاء «شركة باتيه» التي كان شعارها ديكا يصيح وكأنه يوقظ الناس على معجزة السينما ثم يبيض ذهبا ينتشر في الاتجاهات التي مر بها نابليون. والحقيقة أن لقب «نابليون السينما» كان قد أطلقه المؤرخ السينمائي الأشهر الفرنسي جورج سادول لأنه استطاع خلال عقد واحد أن يؤسس امبراطورية صناعية واسعة سمحت لفرنسا بتحقيق السيطرة على سوق السينما العالمية حتى بداية الحرب، حتى ان هذه الشركة استطاعت شراء حقوق شركة الاخوة لوميير ذاتها، وتولت الاشراف على تصميم كاميرا متطورة استطاعت فرض وجودها لدرجة ان بعض التقديرات قالت ان ستين بالمائة من كل الأفلام التي تم تصويرها قبل عام 1918 استخدمت فيها كاميرا باتيه.

والى جانب ذلك ايضا كان باتيه يقوم بتصنيع الفيلم الخام وقد اسس عام 1902 شركة لمستلزمات الانتاج كما انه في السنوات التالية ابتدأ افتتاح وكالات اجنبية لتسويق منتجاته تحولت فيما بعد الى شركات انتاج ضخمة في اسبانيا وايطاليا وبريطانيا وايطاليا وحتى في أميركا، ثم في جميع انحاء العالم. وينسب لباتيه الفضل الحقيقي في تأسيس صناعات سينمائية في استراليا واليابان والبرازيل والهند، كما امتلكت شركة باتيه دور عرض دائمة في جميع أنحاء العالم فضلا عن انشاء أفخم صالة سينمائية في العالم «اومينياباتيه» في باريس عام 1906. وفي جانب تسويق الأفلام وصلت شركة باتيه من الانتشار والنفوذ للدرجة التي كانت تسوق من الأفلام ضعف الأفلام التي تنتجها الشركات الاميركية مجتمعة عام 1908، وضعف ماتنتجه الشركات البريطانية عام1909 وكانت أرباح الشركة تسير بشكل متصاعد حتى وصلت الى خمسين او مائة ضعف تكلفة الانتاج. وقد استطاع باتيه ان يصبح الموزع لأفلام منافسه الخاسر جورج ميليس «ساحر الضوء» الذي كان مسيطرا على السينما الفرنسية بين عامي 1898-1904 قبل دخول باتيه هذا المجال، يوم ان كانت افلام ميليس الخيالية المصنوعة بتقاليد مسرحية ذات شهرة واسعة جعلت بعض المنتجين يضطرون لمحاكاة اسلوبه ليتمكنوا منافسته. وهو كما يقول المؤرخ السينمائي دافيد كوك : «أول فنان سينمائي يكتشف امكانات السينما في السرد الروائي» ويروي دافيد قصة ظريفة ـ يعتقد البعض انها مختلقة ـ وهي انه عندما كان ميليس يقوم بتصوير لقطة في أحد شوارع باريس تعطلت الكاميرا فجأة بينما كان يصور حافلة تخرج من احد الأنفاق ثم عادت الكاميرا للعمل وهناك عربة لنقل الموتى تسير في نفس المكان الذي كانت فيه الحافلة. وحينما عرض ميليس الفيلم بدا الأمر وكأن الحافلة قد تحولت الى عربة نقل الموتى مما جعل جورج ميليس يدرك امكانات التلاعب الزمكاني من خلال التوليف الفني.

ومن الأشياء التي نجح فيها شارل باتيه حينما عين «فريدنان زيكا» مديرا عاما لاستديوهات الشركة الضخمة وهو الرجل متعدد المواهب الذي جاء من عالم الغناء في الصالات الموسيقية بحس مرهف لما يريده الجمهور، إذ قدم لهم اعمالا هزلية ممزوجة بالسحر والجريمة، مستعينا بعدد من خبراء التصوير والتركيب والابتكار. واستطاع زيكا ان يتفوق احيانا حتى على جورج ميليس الذي لايرغب في الخروج من الاستديوهات عكس زيكا المولع بالتصوير في الهواء الطلق. وقد استمر زيكا مديرا للانتاج الى أن تم حل الشركة، كما نجحت ايضا شركة باتيه في ضم موهبة اخرى هو الفنان الكوميدي «ماكس ليندير» الذي اشتهر عالميا من خلال تجسيده لدور الرجل سيئ الحظ، وهو يجول شوارع باريس قبل الحرب في عدد كبير من الأفلام القصيرة، وهو ماترك اثرا كبيرا فيما بعد على أعمال الممثل الإنجليزي المعروف شارلي شابلن.

ومن الابتكارات الناجحة لشركة باتيه الجريدة السينمائية «باتيه جازيت،عام 1910، التي كانت تقوم اسبوعيا بنقل الأخبار المصورة من مكانها الى أنحاء العالم، وكانت ايضا تجذب الجمهور لمشاهدة الأفلام التي تعرض في الصالة بعد عرض عدد الجريدة السينمائية الأسبوعي وقد استمرت هذه الجريدة في الصدور حتى عام 1956 أي بعد سنوات من تفكيك شركة باتيه.

جاءت المنافسة القوية لشركة باتيه من قبل شركة جومون التي بدأت متواضعة لكنها تطورت باتباع اساليب باتيه في التوسع من خلال الانتاج وتصنيع الأجهزة السينمائية والتوزيع وبناء الاستديوهات وصالات العرض وارتبطت نجاحاتها بعد ان تولت ادارتها «اليس جي» أول مخرجة سينمائية عام 1906. ثم اصبحت استديوهات شركة جومون هي الأكبر في العالم وظل هذا التنافس محموما حتى جاءت الحرب العالمية الأولى 1914 التي ألقت بظلالها الكبير على الصناعة السينمائية وانحسر الاحتكار الفرنسي في الوقت الذي بدأت فيها الصناعة السينمائية الأميركية بالازدهار كما نهضت صناعات سينمائية عالمية في كل مكان بعد الحرب.

وفي عام 1929 كان شارل باتيه وهو يقترب من الشيخوخة يعلن اعتزاله بعد ان تخلى عن امتيازاته المتعددة وباع العديد من ممتلكات الشركة وفروعها في العالم وانسحب من كل ارتباطاته السينمائية معلنا غروب شمس احدى الامبراطوريات السينمائية الضخمة ومسجلا اسمه كواحد من أهم صناع السينما وروادها.