المخرج عمر أميرالاي: الدولة سبب هلاك السينما

الحرية التي يتمتع بها الانتاج السوري تتيح له تجاوز تجربة الإنتاج المصري الثقيلة

TT

احدث المخرج السوري عمر اميرالاي في فيلمه «الرجل ذو النعل الذهبي» الكثير من الالتباس حول المعنى الذي اراد ايصاله للجمهور من خلال شخصية رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، متناولاً اياه كرجل سلطة ومال، في مقابل ابراز صورته الخاصة كمثقف يواجه الآخر بعين ناقدة، ما لبثت ان تحولت الى عين حائرة اعلنت السقوط في بحر «الغواية»، كما أكد مراراً وتكراراً، مضيفاً خلال نقاش مع الجمهور اللبناني، انه اراد من خلال الفيلم اختبار نفسه كإنسان قبل اي شيء.

بمناسبة زيارته الاخيرة للبنان، للمشاركة في مهرجان «ايام بيروت السينمائية»، تحدث اميرالاي مطولاً لـ«الشرق الأوسط» عن ملابسات فيلمه الاخير، وشخص بدقة ابرز مشكلات صناعة السينما في سورية، مشيراً الى مساحة الحرية للمبدعين في بلده، ذاكراً ما سيطرحه من موضوع في فيلمه القادم. وحول «الغواية» التي وقع فيها باعتراف منه، وما اذا كان يحاكم نفسه، ويندم على تنفيذ الفيلم، قال اميرالاي «اراعي دائماً في كل فيلم اقدم عليه، ان تكون التجربة فنية وشخصية في آن، مما يسمح لي بأن اضع نفسي دائماً في حالة تضيء احدى زوايا شخصيتي، مع عدم الاكتفاء بالاضاءة على شخصية الفيلم، من هنا يتسرب الضوء الى الظلام القابع في زوايا النفس، وهو ما يجهل الانسان وجوده او يتجاهله، كاحدى اشكال الزيف الذي يسعى لاخفاء نفسه وراءه، وهي حالة عشتها في افلامي الاخيرة، ما دفعني الى تعريض الذات لمغامرة عمل فني على اساس الكشف عن ذاتي ليس الفنية فقط وانما البشرية ايضاً».

ورداً على ما اذا كان الفيلم اختباراً للذات اكثر من كونه منطلقاً لايصال رسالة معينة، اوضح اميرالاي «ما يستنتجه المشاهد يرجع الى اي حد يعتبر نفسه طرفاً في ما حدث مع المخرج من مغامرة، واذا أوجدت بالتالي هذه التجربة صدى لديه». ومع التوجه الى جمهور واسع وعريض بما يفرضه الامر من مسؤولية تلقى على عاتق المخرج اولاً، اكد اميرالاي انه ينطلق دائماً «من موقع وعيه تجربته وانتمائه، سواء حياتياً او ثقافياً، او سياسياً او فكرياً»، واضاف: «لا يتوهم الانسان انه كيان ثقافي او فكري مستقل بذاته، بل هو دائماً انعكاس لتيار فكري ومجموعة بشرية على وعي معين، فالعمل ليس مرهوناً بحدود الذات الفردية».

لكن عن عدم التمسك بثوابت ما ليس سبباً لاختيار شخصية الحريري لفيلمه الاخير، يقول: «عندما اقول اني اغير، لا يعني ذلك اني انتقل من رصيف الى آخر، ولكن المقصود هو التصحيح في طريقة السير والخطوة، كأن يخطو المثقف خطوة متواضعة ومتأملة، وذلك لأن تبديل الخطوة ينم عن طبيعة الشخصية الداخلية، في حين تعكس الخطوات المتسرعة طبيعة هذه الذات».

ويعود اختيار الحريري محوراً اساسياً للفيلم الى ما كلفت به من تسمية شخصية عربية ضمن سلسلة «المال والحياة» التي تنتجها «ار. تي» (القناة الثقافية الاوروبية الفرنسية الالمانية)، ويقول اميرالاي من الطبيعي ان اول من يتبادر الى الذهن الرئيس رفيق الحريري لعلاقته بالمال والسلطة، اضافة الى كونه قد احتمل جدلاً كبيراً، ويشدد «لم اختره عن براءة، ولكني اردت اكتشاف عرين المال والسلطة هذا والغضنفر الذي يخفيه، بل الوحش الذي يختفي في ظلامه»، ومن ناحية اخرى، يؤكد اميرالاي «اردت التآمر على نفسي لاكتشاف مدى اندماجي معها».

ونظرا لكون اي عمل يحتاج الى عتاد فكري مسبق، يدافع اميرالاي عن نفسه قائلاً «اعمل في الحقل التسجيلي منذ 30 عاماً، ولن اذهب الى شخصية غير عادية كالحريري خالي الوفاض، بل تسلحت بما يكفي من المعلومات والوثائق لأزيل رهبة المواجهة مع السلطة التي تمثل للمثقف مكاناً ملتبساً». ولم تحتج مسألة اكتشاف العلاقة المفقودة بين المثقف والسلطة الى رحلة طويلة، على حد قوله، معتبراً نفسه سفيراً لتيار كامل من المثقفين يشاركهم الموقف نفسه، ويضيف اخترت الفيلم على ما تمخض عنه الموقف من دراما شخصية وفكرية»، لكن ذلك لم يغير من مواقف اميرالاي كما اكد قائلاً: «ادرك تماماً ان الرأسمالية وبال على البشرية».

ولم يعد يهم اميرالاي في سياق الفيلم الاقتراب من الحريري الانسان «فما اردته هو انقاذ نفسي، وهل اهتم بخزانة ملابسه وبأغراضه الخاصة».

وفي المحصلة، يعتبر اميرالاي انه قدم للجمهور عملاً وجدانياً وموضوعياً و«ليس مأجوراً لقتل انسان او حتى الترويج له»، وقد عمد الى اظهار بعض من السلبيات، فهو يقول «اظهرت ما لمسته من انتهازات دينية وشعبية لرجال المال والسلطة من خلال شخص الحريري»، وابدى اميرالاي اسفه للطريقة التي قرأ بها اللبنانيون الفيلم نظراً لكونهم «المعنيين بالشأن الحريري»، متناولين الجانب الذاتي بعيداً عن الآخر الفني السينمائي الذي انطلق من اشكالية المال والسلطة.

ورداً على ما قاله المخرج نجدت انزور من كون اميرالاي تحول بفيلمه من اقصى اليسار الى اقصى اليمين، قال اميرالاي مبدياً استغرابه لما جاء على لسان انزور «لم اكن يوماً في اقصى اليسار، ولم اذهب الى اقصى اليمين،» واترك للآخرين تحديد موقعي، ربما من خلال اعمالي، واذا اعتبروا انفسهم اقماراً صناعية تحدد احداثيات المثقفين على الارض، فهو امر جيد، ولكنه كلام فارغ لا يرد عليه»، واضاف: «الفيلم من التجارب القيمة جداً التي اضافت لمعرفتي بشخصي ونفسي، ولتجربة المثقف في علاقته بالسلطة، مما ينم عن اضاءة شجاعة نادراً ما اعترف فيها هذا الجيش الهائل من المثقفين ممن ارتموا في احضان المال والسلطة، والمفارقة هي ان تجربتي انتهت بختام الفيلم».

وفي مكان آخر، بعيداً عن الفيلم، اعتبر اميرالاي ان سورية «مبدعة؟!» في مساحة الحرية التي تمنحها للمبدعين، قائلاً: «هناك دعوة للحرية التي لا تتحقق، وقد فشلت كل محاولات احتلالها في داخل الفرد، مما يؤدي الى انحسار هذا الحصار الجائر في سورية الذي يضرب جذوره منذ 42 سنة وهو تاريخ الوحدة وحكم الاجهزة والغاء المجتمع والتنفس بأوكسيجين الحزب الواحد القائد ورؤاه، مما صادر رئة المجتمع السوري ومخيلته واحلامه، وهو ما سيتغير قطعاً من الآن فصاعداً.

وعن مكان السينما السورية من هذا المخاض العسير، اشار اميرالاي الى ان السينما السورية استطاعت في بعض الافلام اقناع جمهورها المحلي والاجنبي، وهي تتضمن نبضات اصيلة صادرة من احشاء المجتمع، وما زال المتتبعون للسينما السورية، على حد قوله، في حيرة من كونها مبدعة ام هي عبارة عن فلتات تؤكد نجاحها من وقت لآخر، وبالتالي ما مدى عمق هذا البئر من الابداع، وهل يحوي شيئاً من الماء القراح؟ معتبراً ان هذا هو السؤال المطروح، نظراً لكون السينمائيين في سورية لم يوضعوا بشكل دائم امام تحدي العمل الفني والتعبير عن الافكار، واضاف ان تجربة سينما الدولة الموروثة من الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية سببت هلاك السينما السورية، التي لم تجنِ سوى ما يقارب 32 فيلماً في مدة تصل الى 30 سنة «وهو انتاج هزيل، سببه غياب سياسة الدولة في دعم السينما، مما يطرح اشكالية حول ما اذا كانت الدولة هي الداعم ام انها المنتج لها، وهي عاجزة عن الاثنين معاً، يضاف الى ذلك، ان غياب السوق السينمائية في العالم العربي، يفقدنا شبكة واسعة من العرض، مما يؤدي الى خسارة الفيلم وعدم استمراره».

وفي ظل ذلك يكثر انتاج المسلسلات التلفزيونية السورية، لسبب بسيط كما يؤكد اميرالاي ألا وهو «وجود ارضية ناتجة عن استمرار خط من انتاج المسلسلات المحلي كان مجهولاً عربياً، الى توفر كم من الممثلين الكفوئين من ذوي الخبرات في مجال التعبير السمعي ـ البصري والمسرحي».

وعن مكان المسلسل السوري من نظيره المصري، اعتبر اميرالاي ان «الانتاج السوري يتمتع بقدر من الحرية المعتوقة من التجربة الثقيلة لنمط الانتاج المصري، والتي عمد المسلسل السوري الى رفسها وتصحيتها»، واضاف «ان من يخوض الانتاج يجب ان يكون قادراً على سباق خيال الجمهور انطلاقاً من موضوعات غريبة»، معتبراً «ان مشكلة المسلسل المصري هي الطبيعة المحافظة العميقة بالشخصية المصرية، ويحدث احياناً ان خنافس صغيرة تتسلل احداها الى سور رمادي ضخم، وتكون ملونة فتعري ذلك اللون الرمادي الباهت، وهو ما تفعله المسلسلات السورية».

وتأثر عمر اميرالاي في بداياته بالسينما الوثائقية او التسجيلية السوفياتية، وهو ما ظهر في اول فيلم قدمه سنة 1970، لكن بسبب عدم وجود مدارس كثيرة لهذه السينما خلافاً للروائىة منها، يقول اميرالاي «اتجهت بعد فترة من املاء جعبتي الثقافية والسينمائية الى البحث المنفرد الخاص».

اما بالنسبة لعمله القادم، فيشير اميرالاي الى انه ينبثق «من وحي منطقة الانجذاب الحالي من نفسي، فألاحظ اليوم محاصرة الانسان المتزايد بموت وفقدان احبائه، مما يجعل الانسان يتحسس مدى الفراغ الذي يلفه من جميع الجوانب»، ويضيف «قبل ان يفاجئني هذا الفراغ، احاول التقاط ذلك الجمال الموجود لدى الشيوخ المحيطين بي، في محاولة لتثبيت صورة جميلة عنهم قبل مفارقتهم الحياة»، ويتخذ من عائلته اطاراً للعمل، وهو يصفه قائلاً «لن يكون عملاً درامياً وانما فيلم «بهجة»، هدفه الاحتفاظ بأجمل الذكريات التي تنطبع في مخـــيلتنا،تمـــامــاً كمنظر المغيب، وهـــل يوجد منـــظر اجــمل منه؟».