بغداد تتجمل بريشة وأفكار فنانة

المدينة القديمة تبعث من جديد بجداريات هيفاء المشهداني

TT

قبل التسعينات، لم يكن من الممكن لأي عابر سبيل، لا يملك من الثقافة الفنية والوعي الاكاديمي الكثير، ان يكتنه اسرار ما يجري داخل كلية الفنون الجميلة في بغداد، إلا اذا «استأذن» من الاستعلامات ودخل زائرا او لقضاء غرض ما، وحتى بعد دخوله فسيحتاج سعيه الى طرق ابواب قاعات الرسم والنحت والسيراميك والمسرح والسينما، ليتعرف الى تفاصيل الحياة والعمل فيها، لأن التماثيل المنتشرة في ارجاء الكلية، ومثلها اللوحات، لا تشفي غليل شخص محب للاستطلاع، او مشبع بأفكار غامضة عن كلية تقدم الفن غذاءً لطلبتها، وتطلقهم في سماء الابداع فنانين متكاملين.

كان الدليل الاكثر تأكيدا على كون البناية المنطرحة على حافة «الوزيرية» تعنى بالفن، هو ذلك الانفتاح والتحرر في طبيعة العلاقات بين الطلبة والاساتذة من جهة، وبين الطلبة انفسهم من جهة أخرى، اضافة الى ملابسهم الغريبة وصرعاتهم الاغرب! كان هذا قبل التسعينات، وقبل ان تأتي تلك المرأة القادمة من جامعة السوربون، محملة بعراقيتها المتأصلة، واطلاعها الذكي على فنون الغرب والخروج عن المألوف، استخدمت ثقتها العالية بنفسها ورغبتها الكبرى بتطبيق ما تعلمته في مجال «الفنون البيئية» لتلين مواضع الصفاد والتصلب في عقول اساتذتها، وتشعل فتيل الحماس في اصابع طلبتها، فتخلق شيئا خارجا عن المألوف ضمن رحلة حفلت بالمواقف اللذيذة، والمتاعب الباعثة على اليأس، هل عرفت الاستاذة هيفاء احمد المشهداني اليأس في مشوارها العنيد؟ ستخبرنا تلك الدكتورة «الصارمة» بنفسها عن تفاصيل قصتها مع كلية الفنون الجميلة، وكيف اتخذتها وسطا ملائما لتحرك في احشائها جنين طموحها، فيكبر ويكبر، وتطل عليه الالفية الجديدة وهو كامل الملامح.

* يقال ان من يريد قطع الف ميل يبدأ بخطوة واحدة، واول خطوة ابتدأت بها رحلة الدكتورة المشهداني كانت في كلية الفنون الجميلة، ماذا تقولين عن هذه الرحلة؟

ـ حصلت على البكالوريوس في الفن التشكيلي، ثم الدكتوراه في فلسفة الفن، او علم الجمال، من جامعة السوربون الفرنسية، وعدت الى كلية الفنون الجميلة لأدرّس مادة علم الجمال، والجداريات، والتخطيط، ضمن مادة (فنون بيئىة)، كان لزاما عليّ ان اجسد ما تعلمته بشكل فاعل، ولا اكتفي بالمادة النظرية التي اعتاد الطلبة على تلقيها قبلي ضمن اسلوب تدريسي تقليدي، لذا قررت ان استخدم كل ما لدي من اسلحة المنطق والاقناع والحجة العلمية لاقناع المترددين والرافضين للمشروع الفني (الغريب) من وجهة نظرهم، اخبرتهم انني سأكسو جدران الكلية بالرسوم والالوان والتخطيطات، واعيد الصلة المقطوعة بين المشاهد العادي والفن، فجابهوني بضراوة، ولم يقتنعوا بزعزعة اركان هدوء الكلية ورضوخها للعادي والمألوف، ازداد اصراري، فواصلت النقاش الهادئ، وطرح الآراء العلمية، وحصلت اخيرا على بداية الخيط حين خصصوا لي جزءا يسيرا من الجدران الجانبية لأنفذ عليها مشروعي، كانت الخطوة الثانية هي اغلاق دفاتر الطلبة، والتقاط الفرش والاصباغ والسلالم المستخدمة في البناء والخروج الى الشارع، خرج معي الطلبة ببدلات العمل بحماس الشباب والرغبة بتطبيق نظرياتهم العلمية من خلال بث الروح في اصابعهم المستكينة، وهكذا كانت البداية.

* ما هي الخطوة الاولى على طريق الألف ميل؟

ـ في بداية العمل اخترنا لمشروعنا اسم «بغداديات»، لأننا استوحينا افكاره من المحيط الفولكلوري البغدادي، رسمنا صورة البيت القديم والدكاكين الشعبية، وعرضنا على المارة الافرشة والبضائع والبسط بشكل اقرب الى الواقعية، وباستخدام الخدع البصرية، ورغم غرابة المشروع، فقد لاحظنا روعة اصدائه في الشارع، وفاق الاعجاب حدود تصوراتنا.

* هل غيّر ذلك قناعات المسؤولين في الكلية؟

ـ بالضبط انجزنا الواجهة الجانبية او القسم العلوي منها تحديدا، ثم نفذنا مشروعا آخر ينتمي لـ «بغداديات» ايضا، وكان التطبيق هذه المرة على الواجهة الامامية لمبنى الكلية، وكان العمل عليها صعبا بسبب التكوين المعماري للبناية، فقد قام الطلبة بنقل زقاق شعبي كامل، نقلا حيا، من محال لبيع الرقي والخضار والفواكه ومظلات تغطي واجهات الدكاكين، الى ابواب تراثية وشناشيل وطلعات واعشاش طيور، وكان العمل دقيقا الى حد ان احد المارة توقف ظهيرة صيف حار ليطرق احد الابواب المفتوحة ويطلب الماء، وقد ادهشه ارتطام يده بالجدار!! كان الخداع البصري على درجة عالية من الايهام الحقيقي الواقعي.

* ولماذا الواقعية؟ ألم تجتذبكم الحداثة التي صبغت رداء الفن التشكيلي أخيرا بصبغتها؟

ـ انا حاولت مع الطلبة تقديم فن راق للشارع، لم اكن اقصد النخبة حين خضت في مشروعي، بل اردت ان اعوّد عين المشاهد العادي على اعمال فنية بسيطة وجميلة، وباستخدام لغة فنية عالية التقنية، وعلى كل حال، فقد كان هذا هو الجزء الاول من المشروع المتعدد الخطوات.

بعد ان صار التطبيق في مادة (فنون بيئية) مقبولا ومستساغا بالنسبة لاساتذة الكلية، صار معتادا ان ينقسم درس (فنون بيئية) الى مرحلتين، خلال العام الدراسي الذي يتكون من فصلين، فتم تخصيص الفصل الاول لعمل جداريات الكلية، اما الفصل الثاني فاختص بعمل اسكيتشات على ابنية بغداد، حيث قامت الدكتورة هيفاء بمرافقة طلبتها والتجول في العاصمة لاختيار بناية ما، واعداد التخطيطات اللازمة لها لاغراض دراسية بحتة.

* كيف كان رد فعل الدوائر والشارع عموما؟

ـ لم يكن من السهل اقتحام جدران المدينة، وتحوير واجهاتها من قبل استاذة «امرأة» وطلبتها، فقد واجهنا العديد من التساؤلات والفضول والتعليقات الساخرة، وزاد ذلك من تصميمنا ورغبتنا بالاستمرار، اما بالنسبة للدوائر فلم ترحب بنا كما هو مطلوب، لقد دعتنا امانة بغداد لتزيين عدد من الجدران في منطقة «السنك» على ضفاف دجلة، وانجزنا العمل بنجاح، وخلصنا بغداد من تلك الجدران المهترئة، واكسبنا المكان مشهدا جماليا يليق بالعاصمة، إلا ان الدعوة لم تتكرر، لأن الشخص الذي تفهم عملنا غادر موقعه الوظيفي، ومن جاء بعده وجد في عملنا شيئا لا يتناسب مع «طقوس الامانة» التقليدية!! ثم جرت محاولات مع بعض المؤسسات، إلا انها لم تصل الى حيز التنفيذ، فقد عرضنا على احدى الدوائر المخطط الفني المقترح على جدار عمارتها، واذهل العمل المسؤولين فيها، لكنهم، وبدلا من محاولة مكافأتنا على جهودنا، طلبوا منا انجاز المشروع على حسابنا الخاص، وكان الامر برمته في غاية الطرافة والمرارة.

* وما الذي دعاك الى التوقف لفترة عن مشروعك في الكلية، في مشروع «بغداديات»؟

بعد انجازنا آخر عمل على واجهات مبنى كلية الفنون الجميلة، توقفت نشاطات الفريق، لعدم توفر التخصيصات المالية لشراء مواد العمل، وبالذات الاصباغ، لم احصل على المساعدة المطلوبة، فتوقفت. اما بالنسبة لمشروع «بغداديات» فإن التأثيرات الجوية فعلت فعلها فيه، وفقدت الرسوم اشراقتها «لحين» واضطررنا بعدها الى اقامة اعمال جديدة.

* ومتى كانت العودة الى استكمال ما بدأت؟

ـ عدت في عام 1999 بعد توفر المستلزمات الخاصة بالعمل، وعاودت مع طلبتي اقتحام الجدران بعد ان تقدم احد طلبة الدراسة المسائية بمشروع من مشاريع التخرج، اخضعنا الموضوع للنقاش المستفيض، واتفقنا على اسلوب التنفيذ، ثم شرعنا بالعمل معتمدين على عدة مجاميع من الطلبة، تتولى كل مجموعة جانبا، كتنظيف الجدران، ووضع اللون الاساس، والتخطيط والرسم، وشمل المكان واجهة الكلية بالكامل وسياجها كله.

* مشروعكم الجديد يميل الى الحداثة كما نرى؟

ـ صحيح، لقد استخدمنا افكارا معاصرة مع قدر من الرمزية التي لا يصعب على المشاهد ادراك معانيها، بهدف المحافظة على العلاقة مع الشارع، فلم نرغب بالاغراق في الاساليب الحديثة، حاولنا التجديد والتنويع، وكانت الفكرة الاساسية هي استخدام صورة الفنان الراحل فائق حسن ورسمه وهو يتأمل الفنان الراحل جواد سليم ابان عمله في «حصان الحرية» الذي يخترق اللوحة ليدل على التطور الذي شمل الحركة التشكيلية في العراق، ومن يدقق النظر في حركته ووثوبه الى الاعلى، والى الفضاء الخارجي، سيكتشف النظرة المستقبلية لواقع الفن العراقي. اما بالنسبة للسياج فقد شارك فيه خمسة طلبة قدموا مفردات عمل تم جمعها في وحدات رمزية متممة لبعضها، تشير الى الحصار، ومحاولة الخروج منه بهيئة ورود وحمامات بيضاء وسماء وماء وارض، ويوجد في بداية ونهاية السياج غاليري لاعمال كبار الفنانين العراقيين، مع وجود ذراعين ترفعان مبنى الكلية، ورموز تعبيرية عديدة.