موتسارت والدراما الجديدة بين البيانو والأوركسترا

TT

إن متذوقاً مبتدئاً للموسيقى، ليحار في البحث عن مدخل ملائم لموسيقي كبير مثل موتسارت، بسبب غزارة الإنتاج وشدة تنوعه. هل يبدأ مع السيمفونية أم مع الرباعية الوترية، أم سوناتة البيانو، أم مع الكونشيرتو، أم الأغنية، أم الأوبرا... إلخ. وأيّهم أيسر على الذائقة وأرحب في فهم هذا العالم الذي يبدو بلا حدود؟

كثيراً ما أجدني أقترح كونشيرتو البيانو كمدخل، فموتسارت وضع سبعة وعشرين عملاً منه، وأكثر الكونشيرتات وضعها استجابة لدافع داخلي. وهذا الفن ينفرد فيه البيانو، وتنفرد فيه الأوركسترا، ويلتقيان أيضاً لقاء توافق أو صراع محتدم يذكر بالدراما التي في الأوبرا. فهو فن، إذن، يجمع أكثر من فن. ولمسة موتسارت فيها لمسة مغيرة ومجددة، حتى لتعتبر أعماله بداية مرحلة كاملة الجدة، وقفزة حقيقية على أثر كونشيرتو مرحلة الباروك المتمثل في أعمال باخ وفيفالدي.

لفن الكونشيرتو، بصورة عامة، أعطى موتسارت، اثنين وأربعين عملاً: 27 للبيانو، 5 للفايولين، 4 للبوق، 2 للفلوت، وواحدا لكل من الكلارينيت والأوبو والباسون. أعطى بهذه الوفرة احتفاء بهذا الفن الذي حقق صيغة ناضجة: في امتداده، وفي تشربه لفكرة «شكل السوناتا». بحيث أصبح المستمع يتمثل صراعاً حقيقياً في الحركة الأولى: حيث تبدأ الأوركسترا وحدها في تقديم اللحن الأول ثم اللحن الثاني، وما إن يلتحما ويبدأ الصراع بينهما حتى يدخل البيانو المنفرد، وهذه المرحلة تسمى داخل شكل السوناتا بمرحلة «التطور» أو النمو. ثم يشعر المستمع بأن الثقل الحقيقي في كل الحركة الأولى إنما يتجه نحو التصفية النهائية للصراع، وهي المرحلة الثالثة، حيث يصفو العازف المنفرد لنفسه مرتجلاً حراً من أي مزاحمة أوركسترالية، ويسمى هذا القسم «كادينتسا»، وكثيراً ما يستلهم مادته، التي تبدو حرة، من اللحنين الأول والثاني.

في الأوبرا كان الجديد لدى موتسارت أنه جعل الأغنية تمسك بالفعل الدرامي. ولا تستقل وحدها كحلية، كما كانت مألوفة في الأوبرا آنذاك. فهي تدفع بالحدث وتضيء الشخصيات. حاول في أعمال الكونشيرتو ذات الشيء. فالعازف المنفرد والأوركسترا في تداخل وتقاطع دائم من أجل مزيد من الإحساس بالدراما، وهذا الإحساس هو الذي أعطى كونشيرتاته هذه الشهرة وهذه الديمومة.

معظم كونشيرتات البيانو الناضجة وضعها موتسارت بعد انتقاله إلى فيينا من مدينة سالبزبورغ (1780)، وضعها، كما قلنا، استجابة لدافع داخلي. ورسائله الكثيرة إلى والده، تكشف دائما عن هذا الحرص على خصوصيتها: «إني اتضرع إليك بأن تصونها كما تصون كنزاً، وأن تعرضها على أحد لعزفها.. لأنني ألّفتها بصورة خاصة لنفسي، وليس لأحد حق عزفها باستثناء أختي العزيزة». ان حرصاً كهذا ينم عن إحساس باستثنائية وجدة أعمال مدهشة كهذه.

الكونشيرتات الخمسة الأولى ليست أصيلة، فقد أخذ موتسارت مادتها في سوناتات بيانو لآخرين. ولكن في الكونشيرتو التاسع بدأت مرحلة النضج الحقيقية، التي وجدت قاعدتها في فيينا في ما بعد، خاصة في الكونشيرتات الخمسة عشر. ولكن بين هذه الثروة الآسرة للمستمع أن ينفرد بثلاثة هي درة التاج (رقم 23، 24، 25). في الأول يتميز اللحن الظاهر في الحركتين المشمستين الأولى والثالثة، أما الثانية بينهما فعلى شيء كثير من العتمة والاستثارة الباطنية المقلقة، وهي الحركة البطيئة. وفي الكونشيرتو 24 تجد مساراً يكاد يكون عصابياً، شديد التوتر ويستدعي قدرة على السيطرة عالية من قبل العازف. ولقد كان لهذا الكونشيرتو تأثير خاص على بيتهوفن في ما بعد.

أما رقم 25، فهو كونشيرتو خادع في الظاهر، لأنه يعرض لك وجهاً يسيراً وبسيطاً، لكن التقنية المتطلبة فيه عصية على العازف، إذا لم يكن موتسارتياً ماهراً.

إن هذه الثلاثة المختارة، ليست إلا فاتحة شهية. فكونشيرتات موتسارت دائمة الشعبية لشدة تنوعها وغناها جميعاً. ولم تنطفئ جاذبيتها لكل عازف على البيانو، ولكل قائد أوركسترا. والذين عزفوا الأعمال كاملة كثار، لعل أشهرهم: بريندل وبرايا وبيرينبويم وكمبف واوشيدا واشكنازي وآندا.

الأخير جيزا آندا هنغاري، وعزفه كلاسيكي يعود إلى الستينات. ولقد ظلّ لدى عدد من النقاد مصدر حنين لعزف موتسارتي متكامل، خاصة أن آندا قدم الكونشيرتات مع فرقة «كاميراتا أكاديميكا» الألمانية، وتحت قيادته.. وهي أهم مَن عزف موتسارت حتى اليوم. إن العازف والفرقة لم يتركا ظلاً لثقل، داخل العمارة الكلاسيكية، ولم يخفا تحت تأثير رومانتيكي، بفعل عواطف موتسارت الثرة، بل هناك توازن خالص.

إن هذا العزف النموذجي للكونشيرتات، وقع بين يدي أخيراً، فقد أعادت إصداره دار النشر Deutsche Grammophon، في ثماني اسطوانات CD، وبسعر رخيص، قياساً لسعر الاصدارات الجديدة، بعد ان كان على الاسطوانة السوداء في الستينات. في هذا الاصدار الجديد، سيتوفر المستمع على مجموعة 27 كونشيرتو باستثناء السابع المؤلف لثلاث آلات بيانو وأوركسترا، وكذلك العاشر المؤلف لآلتي بيانو، وما زال التسجيل رائعاً مع شيء لا يكاد يبين من هسيس الزمن والتقادم.

Mozart: The Piano Concertos.

Anda (DG)