السعودية: أعمال فنية للناس يقدمها التشكيليون بأسعار رمزية

مهرجان فني برعاية مؤسسة تهدف إلى تنمية التواصل وتكشف مأزق التجربة الراهنة

TT

يجد السعوديون متعة هذه الأيام في التعامل مع أول مهرجان فني من نوعه يتيح التواصل عن قرب مع أعمال 22 فناناً تشكيلياً يعرضون أعمالهم الفنية تأسيساً لتجربة فريدة وبأسعار رمزية تتراوح بين 1800 و2000 ريال سعودي، وهي المرة الأولى التي تقدم فيها أعمال فنانين معروفين بهذا التقدير المادي حيث اعتاد الفنانون على تقديم أعمالهم بمبالغ مادية عالية وبعيدة المنال بالنسبة للجمهور العادي.

وتوزعت فعاليات المهرجان خلال أربعة غاليريهات هي: أرابيسك، أتيليه جدة، صالة رضى، والعالمية، في محاولة جادة للتنوع وتعدد المستويات. وشهد المهرجان حضوراً كرنفالياً لعدد كبير من الفنانين والجمهور حيث افتتح الفعاليات الأمير فيصل بن عبدالله والأميرة جواهر بنت ماجد.

ويأتي المهرجان تحت اسم «الفن للجميع» بمدينة جدة ابتداء من 26 من شهر مارس (آذار) الجاري ولمدة ثلاثة أسابيع، وتنظمه مؤسسة «المنصورية للإبداع والثقافة» التي تشير إلى مرامي المهرجان الرفيعة المستوى انطلاقاً من سؤال يتمحور حول موقع الفن التشكيلي السعودي في حياة المجتمع. ويتمادى السؤال بصيغة أخرى حسب بيان المهرجان «إذا كان لدينا فن جاد فلماذا لا يساكننا بيوتنا ويتنفس معنا ويكبر على جمالياته صغارنا؟ كم من البيوت التي ندخلها تعرض لوحة تشكيلية من عمل فنانينا؟».

وتعترف مؤسسة «المنصورية» عبر مكاشفة غير معهودة أن الفن السعودي يرزح تحت معوقات وهموم قادت لما هو عليه من غياب حالي، وما سينساق إليه من المزيد من الركود، وما سينتهي إليه من تهميش كمادة حياتية حيوية، ومن استفحال الفجوة بين الفن وجمهوره وبين الفنان ومتلقيه، حتى صار لدينا فن بلا جمهور، على حد تعبيرها.

وترى المؤسسة أن من أبرز المشاكل غياب التقييم والتصنيف الفني لتجارب الفنانين ومدى جدية عطائهم، وعدم وضوح الخط الفاصل بين مسمى محترف وهاوٍ للفن، مشكلة ركود الطرح الفني، عدم وجود فكر ينتظم نتاج الفنان وتجربته، عدم توفر الفرص لبعض أصحاب التجارب المتميزة للاحتكاك الداخلي أو الخارجي مع تجارب تصقل تجربتهم وتثريها، عدم وجود قاعدة متنامية للتلقي الجاد القائم على أسس فنية مغروسة منذ الصغر، أي عدم وجود توجهات تربوية علمية أو اجتماعية لتربية الذائقة الفنية لدى الجمهور العريض، انصراف أصحاب الذائقة الفنية الراقية عن المعروض نظراً لعدم وجود ضوابط لسوق الفن السعودي، ومن معوقات التوصيل الفني قصور الالمام بقواعد وفنون الاحتراف في ما يتعلق بالعرض، وهذا مأزق صالات العرض الفني، فالعشوائية في التسعير والتذبذب في الطروحات الفنية يرجعان الى ان صالات العرض لا تقوم بدورها كخبير فني ناصح، بقدرما تهدف لاستغلال المكان تجارياً.

ومن المعوقات اللافتة أيضاً ظاهرة العشوائية في العرض، حيث يهمش مبدأ التخطيط المتأني الكافي للمعارض المقامة وما يرافقها من اجراءات تنفيذية ومطبوعات ودعوات وتغطية إعلامية وتأمين التواصل مع المتلقي والراغب في الاقتناء. وتحرص الأعمال المشاركة على تصوير مستوى الفن التشكيلي في السعودية حيث القدرة على التجديد والتطوير ومراودة عوالم التجريد لخلق فضاءات تحلق فيها عيون المتلقي وتحتفي بها الذائقة الرفيعة كما يبدو ذلك في أعمال الفنانين عبد الله حماس وطه الصبان ومحمد سيام وشادية عالم وضياء عزيز ضياء واحتفائهم الشفاف والعميق برمز الحياة اليومية ومكوناتها التي تنعتق من صرامة الصورة المعهودة إلى رحم اللوحة وارتواء اللون وبهائه، كما تحضر التأثيرية بوهجها وإيحاءاتها وشمول نبضها المعتمد على ثراء الجوهر واختزال التأوه في سياق الصراع الأزلي في المدينة الحديثة، تشهد على ذلك أعمال فنانين متمكنين مثل أحمد فلمبان، ويوسف جاها، وعبد الرحمن السليمان، ومهدي الجريبي.

أما النحات علي الطخيس والفنان أيمن يسري فثمة عناية ملحوظة لديهم بالشكل والكتلة، حيث يطوع الأول الصخر ويصوغ منه تحفته الأثيرة الناعمة بتجويفاتها وفراغاتها التي تسمح للعين بالسفر في الأبعاد، وتجذبه إلى الحوار معها، بينما يبدو أيمن يسري مواصلاً اعتناءه بجمع المدهشات باستخدامه ما لا يتوقعه الآخرون مادة لخلق عمل فني يعتمد البراءة والهدوء المسكون بأسئلة تلفت الانتباه وتدعو إلى اليقظة.

وتجتمع أعمال نوال مصلي مع أعمال ابراهيم النغيثر للقيام بدور الاحتفاء بشخصية المكان الخصب حيث المساحات الخضراء تكتنف المساكن وتغمر الناس بالدفء والتآلف في مظهر الريف والقرية.

وحرصت المؤسسة الراعية للمهرجان على أن تكون الأعمال المشاركة تمثل بجدية مستوى الفن السعودي والقدرة الأدائية المتوفرة له بعيداً عن المجاملات التي تكتنف كثيراً من العروض السابقة، وساهمت في تكريس مجموعة من الهواة باعتبارهم فنانين محترفين من دون تأسيس معرفي وثقافي جيد.

ورغم نبذ مؤسسة المنصورية لتقاليد المغالاة في أسعار الأعمال وسوء التخطيط والدعاية للمعارض فإنها ورثت جزءاً لا بأس به من العثرات يبدو أن تجاوزها من التجربة الأولى أمر غير يسير حيث قدمت كتاب المعرض بسعر200 ريال وهو ما اعتبره الحاضرون منافاة لمبدأ الفن للجميع، إضافة إلى افتقاد المهرجان للدعاية والاعلان المكثف حيث اعتمدت المؤسسة النشر الموجز خلال الصحف المحلية من دون توزيع الملصقات، أو الاعلان عبر الوسائط المتعددة مع نسيان التواصل مع المؤسسات التعليمية والتربوية حيث اعتبرت المنصورية الغياب عن هذه القطاعات من أبرز معوقات الحركة الفنية في السعودية.

وحقق المهرجان تفاعلاً منقطعاً من قبل الفنانين إذ زرع في نفوسهم أمل التواصل الحقيقي مع الناس وتأسيس جسر فعلي يصلح ما فسد سابقاً وترى الفنانة شادية عالم المشاركة في المهرجان استجابة لمشروع هو مرحلة بحد ذاتها. فكل من الفنان والمتلقي مبدع بطريقته، لكن أميتهما الحقيقية تكمن في عدم مقدرتهما على أن يكونا مبدعين بفعالية.. من هنا تأتي أهمية هذا المشروع الذي يعتبر خطوة ارتقائية تهدف إلى صياغة مبادئ لتنشيط ذلك التفاعل بين الجميع.