عمر كدرس «عراب الأغنية» وفوزي محسون ملتصقان بتراب الكلمة الحجازية

إرهاصات الفن الحجازي بداية لتطور الأغنية السعودية

TT

مع الآذان الأول الذي تزامن مع وفود الحجيج إلى الأراضي المقدسة، بمختلف أعراقهم وتباين لهجاتهم ولغاتهم من الفارسية والهندية والرومية، انبثقت تقاليد وعادات أعادت ترتيب البيت المكي، مما أحدث نوعا من الشجن والحنين تمثل في بعض الأهازيج الشعبية التي كان يتغنى بها هؤلاء، كل هذه التوليفة العرقية بما تحمله من تباين في التراث الثقافي شكلت تعددا في الوان الغناء الذي أجمع كثير من الباحثين على أنه قد شكل اللبنة الأولى للتراث الغنائي الحجازي.

ولما كانت الطوافة مهنة الغالبية العظمى لأهالي البيت الحرام، فقد لعبت حينذاك دورا مهما في انتشار الوان الغناء المحيطة بالمنطقة من اليمن بشكل خاص، كما أوضح الموسيقار سراج عمر «كان صبيان المطوفين يسهرون خلف المخيام اليمني، بعد صلاة العشاء فيما يشبه الأمسية الثقافية التي تتضمن إلقاء القصائد والمدائح التي يتخللها فن التطريب، وأخرى من القصائد المغناة خلال أيام عيد الأضحى». «المقعد» أو ما تعارف عليه حاليا باسم الديوان الذي يتميز به الطراز المعماري للبيت الحجازي، شهدت جنباته في الماضي تجمع متذوقي الفن الجميل الذين كانوا يحضرون ليشنفوا آذانهم بألوان من الطرب والتراث الحجازي القديم، تتراوح بين المجس والدانات الفولكلورية لتزين مساءاتها الحجازية بأصوات تلامس شغاف القلوب من أمثال المنشد المكي حسن جاوة، الذي برزت مواهبه في التلحين والارتجال والتطريب، لتتمايل معه الرؤوس وتصفق له الأيدي منتشية بخمرة الطرب الأصيل، والذي عمل على الابتكار في تلوينه وتطويعه بما يقارب ذائقة الجماهير الحجازية من ألوان «الحدري والمجرور والمجس».

منذ عام 1350هـ بدأت الأغنية الحجازية البداية الفعلية ولم يكن جاوة وحيد عصره، بقدر ما كان أحد أعمدة الرعيل الأول الذي ساهم في إرساء قواعد الفن الحجازي القديم، فقد رافقه وقتها صالح حلواني وسعيد أبو خشبة، الذي كان مفعما في أعماله بروح الأصالة المحلية وخصوصية البيئة، حيث كانت اختياراته الشعرية لا تخلو من توليفة من عيون الشعر العربي الفصيح ممزوجة بتلوينات المدائح النبوية وقليل من الشعر العامي الحجازي المتداول.

ولأن الفنون ضرب من الجنون فقد استهوى حينها مجموعة من الشبان الذين لم يكن باستطاعة الواحد منهم شراء وتر من عود يمارس عليه عزفه المنفرد في ليله الطويل، مما دعا الفنان الراحل محمد باجودة مع رفاق دربه إلى شراء عود جماعي بثلاثة ريالات من النجاري في محلة الشبيكة بمكة المكرمة ليتدربوا عليه بالتناوب وبدأوا بالتعلم عليه، ويعد باجودة أحد أهم مطربي الأغنية الحجازية والذي أطلق عليه الراحل علي سندي لقب «قائد التراث الغنائي» بسبب اهتمامه بنقل التراث وإلمامه بالمقامات.

لم تكتف الأغنية الحجازية بالقواعد التي أرساها المؤسسون للغناء الحجازي فقد واصلت الأغنية الحجازية تقدمها مع الأجيال المتلاحقة، التي عملت على تطويرها لتشكل فيما بعد مرحلة مهمة من مراحل تطور الأغنية السعودية على يد الجيل اللاحق لجيل حسن جاوة، والذي عاصره البعض منهم من أمثال العميد الموسيقار طارق عبد الحكيم وجميل محمود وعمر كدرس الذي يعتبر «عراب الأغنية الحديثة وساهم في صناعة كثير من الألحان التي صنعت مجد بعض الفنانين».

ولأن الأغنية الحجازية تميزت بمفردتها المتفردة بمحليتها المأخوذة من اللغة المحكية الدارجة في وصف حال الحبيب في أوقات وصله وهجره، فقد لعب كثير من كتاب الكلمة في منطقة الحجاز دورا كبيرا في ثراء هذه الأغنية وإعطائها زخما ورواجا لدى المتلقي من أمثال محمد طلعت وياسين سمكري ولطفي زيني وخالد زارع ونجيب بطيش، الذين ساهموا مع موسيقيي هذه المرحلة وفنانيها مثل سراج عمر ومحمد شفيق وسامي إحسان، تضاف اليهم تلك الثنائية التي جمعت كلا من الفنان الراحل فوزي محسون الذي كان «ملتصقا بتراب الكلمة الحجازية» بحسب تعبير الموسيقار سراج عمر ورفيق دربه صالح جلال مع مساهمات الشاعرة ثريا قابل، إلا أن المنعطف الأهم في ذلك كله الشاعر الكبير إبراهيم خفاجي الذي تخرج في مدرسته الكثيرون وعمل من خلال أعماله على إثراء الأغنية الحجازية.

وبما أن أهل الحجاز عشاق فن وموسيقى فلم يقتصر هذا الفن على رجاله بل تعداه إلى نساء البيت الحجازي، اللآئي كن يعقدن الأمسيات الفنية في مجالسهن، واتيحت الفرصة للكثيرات منهن ليبرعن في هذا الفن الراقي، وليقدمن فنانات واعدات حينها ليس على مستوى الغناء فقط بل العزف الموسيقي على الآت مثل العود والكمان والذي برزت فيه كل من فاطمة وعائشة زايدية، أما على مستوى الغناء فقد خرجت من تلك الأمسيات النسائية الفنية فنانات بحجم فتحية حسن يحيى «توحة» التي أثرت المناسبات الحجازية والمكية منها بشكل خاص، يضاف اليها الفنانة ابتسام لطفي التي تخطت حدود منطقة الجزيرة لتصدح بصوتها عاليا، ولم تكتف مجالس الستات بهذا الكم من الفنانات فقد كان لكل منطقة من الحجاز فناناتها، فكانت هناك أسماء لمعت لتشتعل نار المنافسة بينهن ولتصب في مجملها في نهر الأغنية الحجازية فكانت شوق الجداوية وقمر الطاهرية، زينب الهندية وحجية المكاوية من مكة إضافة إلى عطيفة ومريم من الطائف.

لم يكن من شيء تزدان به تلك المجالس الحجازية الفنية على مستوى الرجال أو السيدات ببداية لها أجمل من المجس أو الموال الذي يشكل بداية الغناء الحجازي أو ما يسمى بالمقام الحجازي، الذي يقول عنه الفنان سراج عمر «المقام الحجازي من أهم المقامات ويختلف عن أي مقام في الدول العربية أو الإسلامية، فهناك ما يطلق عليه البنجكة والدوكة والصبا والركبي ويماني الحجاز والمايا وكثير من المقامات والإفرازات الأخرى». ويضيف معلقا حول مرحلة من مراحل تطورالأغنية الحجازية «جاء دور الأغنية الموقعة المتوارثة من الفنون اليمنية مع توافد اليمنيين إلى البلاد منذ القدم خاصة جنوب اليمن من عهد قريش والعصر الإسلامي، فالفنان الجنوبي هو من بدأ بعمل الترتيبات الإيقاعية لتشكل الأهازيج بداية للغناء الحجازي». نشأ المقام الحجازي وخرج للعالم من مكة المكرمة، أما الدانة المكية فهي عبارة عن إيقاعات يرجع تاريخها إلى ما قبل 870 عاما، وتعتمد الدانات في مجملها على القصائد المقفاة الموزونة ومعظم نصوصها ترجع للشعر اليمني والحجازي الفصيح.