المايسترو العراقي: موسيقانا لا تقل عن مثيلتها الغربية أهمية.. ونحتاج إلى الدعم لننتشر عالميا

المايسترو محمد عثمان لـ الشرق الاوسط : الموسيقى الشرقية غنية في مفرداتها وآلاتها

TT

ينشغل المايسترو العراقي هذه الايام بتدريب فرقة أوركسترا المعهد الوطني للموسيقى في العاصمة الاردنية عمان على عزف مقطوعات لـ«موتزارت» استعدادا لتنظيم حفل سيمفوني كبير بمناسبة الاحتفالات العالمية بذكرى ميلاد «موتزارت» الـ 125 وباعتبار 2006 سنة موتزارت الذهبية.

محمد عثمان من يراه سيتذكر مباشرة ذلك الموسيقي الذي كان ينحت في صخر المستحيل بعد عاصفة الصحراء (حرب تحرير الكويت) حين كان العراق يعيش سنوات صعبة. عثمان كان يبني من جديد الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية ويقودها في الاعوام ما بين 1991 وحتى 1993 ليؤكد ان الحياة العراقية يجب ان تتلون بالموسيقى وليزيح عن صدر بغداد رائحة دخان القنابل والحرائق.

من بين ستة اخوة، ابناء وبنات، خرج من عائلة عثمان في مدينة الموصل خمسة موسيقيين، احدهم هو محمد عثمان الذي درس آلة البيانو في مدرسة الموسيقى والباليه ببغداد ليدرس بعدها في موسكو ويحصل على شهادة الماجستير في الموسيقى عام 1987. وببساطة وتواضع المبدع، يعرف عثمان نفسه «قائد اوركسترا وعازف بيانو، خريج مدرسة الموسيقى والبالية في بغداد ثم خريج موسكو، ماجستير موسيقى».

عند عودته الى العراق رجع الى موطنه الموسيقي الاول، الى مدرسة الموسيقى والباليه التي كان قد دخلها طفلا بالكاد يقوى على حمل حقيبته، مع خطواته الاولى تلك كانت ابواب المستقبل الموسيقي تتفتح امامه.. عاد عثمان الى مدرسته الاولى، لكنه هذه المرة استاذا لآلة البيانو. عندما جلس ليعزف هناك تذكر سنواته الاولى يوم لم تكن ساقه تعينه وتصل الى الارض.. لكنه عاد ليفي بدين قديم لمدرسة فرشت امامه اهم دروب حياته.

يتحدث عثمان عن تجربة مدرسة الموسيقى والباليه، فيقول «ضمن جولاتي في العالم وتعرفي على مدارس موسيقية كثيرة في اوربا واميركا لم اتعرف على مثل تجربة مدرسة الموسيقى والباليه في بغداد، وهي تجربة فريدة ورافقت فكرة تأسيسها جرأة كبيرة. لقد خلقت هذه المدرسة جيلا موسيقيا متقدما ولولا الظروف التي مر بها العراق خاصة في التسعينات والتي ادت الى سفر وهجرة الموسيقيين لكانت هذه المدرسة واحدة من افضل مدارس الموسيقى والباليه».

ويضيف «اتذكر ان اوركسترا المدرسة كانت تتكون من الطلبة فقط وتضاهي الفرقة السيمفونية الوطنية التي تضم خيرة العازفين المحترفين، والآن الموسيقيون العراقيون المنتشرون في انحاء العالم والذين يشغلون مراكز مهمة هم من خريجي هذه المدرسة وإذا عادوا الى العراق سوف يخلقون ثورة وثروة موسيقية هائلة وسأعود اذا تحسنت الظروف الامنية في البلد، ذلك ان الفنان الموسيقي عاش في ظل ظروف صعبة في عهد النظام السابق».

حاضر عثمان ايضا في اكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد وقاد الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية ما بين الاعوام 1991 و1993 قبل ان يغادر الى عمان ليقود اوركسترا المعهد الوطني للموسيقى ويعمل استاذا للبيانو ومساعد العميد للشؤون الاكاديمية.

في الاستوديو الخاص به في المعهد الوطني للموسيقى التقت «الشرق الاوسط» مع عثمان الذي بدا مرتبطا بالبيانو حيث يستمد كل منهما قوته من الآخر متحدثا عن اسباب هجرته للعراق، فيقول «الموسيقي يحتاج الى احتراف وسفر للقاء الموسيقيين العالميين والمشاركة في فرق موسيقية متطورة، لكننا كنا في العراق وفي ظل النظام السابق مختنقين لا نرى احدا، ممنوعين من السفر ولا احد يأتينا، لذا يضطر الموسيقي مثلما كل المبدعين، للسفر والاطلاع والاستماع هذا هو مطلب الفنان بصورة عامة والموسيقي بصورة خاصة، ان يلتقي موسيقيين عالميين وان يستمع ويعزف ويتعرف على تجارب غيره من المؤلفات الموسيقية الجديدة ويختلط بالمدارس الفنية ويتعرف على اساليبها».

وبالرغم من ان عثمان درس الموسيقى الغربية الكلاسيكية، الا انه ينتمي الى بيئته الشرقية، الى موسيقاه الاصيلة التي تدربت ذاكرته السمعية عليها، ينحاز بقوة الى الموسيقى الشرقية وآلاتها، ويقول «خلال دراستي للموسيقى الغربية مثل اعمال بيتهوفن وجايكوفسكي وباخ وموتزارت اكتشفت ان موسيقى كل هؤلاء المؤلفين العظام نابعة من تراثهم، واشهر اعمال جايكوفسكي جاءت من ألحان تراثية من الريف الروسي وموسيقى بيتهوفن جاءت من ألحان شعبية كان الفلاحون يغنونها في احتفالاتهم واشتغل عليها بيتهوفن وحولها الى موسيقى عالمية». ويمضي موضحا فكرته عن الموسيقى العربية «الالحان العراقية والعربية بصورة عامة غنية جدا.. والآلات الشرقية غنية جدا وبالرغم من ان اختصاصي هو الموسيقى الغربية، البيانو، الا انني انتبهت واشتغلت مبكرا على الموسيقى العربية والآلات الشرقية مثل العود والناي والجوزة والقانون، هذه الآلات متميزة بصوتها ودافئة وقريبة لسمع الانسان وفيها امكانيات متطورة وعالية جدا لكنها تحتاج الى دراسة وتطوير وبحث كما هي بحاجة الى عازفين متطورين اكاديميا، عازفين يدرسون هذه الآلات ويدرسون الموسيقى بصورة علمية ويطورون مهاراتهم وان لا يعتمدون فقط على السمع والتلقين. كل الآلات الموسيقية الغربية كانت في الأصل آلات شعبية، سواء الكمان او الفلوت، لكن المؤلفين عرفوا كيف يوظفونها بصورة ابداعية ويؤلفون لها. هذه الآلات التي نراها اليوم في الفرق الاوركسترالية لم تكن موجودة قبل 200 سنة بل كانت الآلات بدائية وتطورت».

ويوضح «استمع كثيرا لموسيقى جنوب العراق مثلا مع اني من مدينة الموصل في الشمال و 99% من اعمالي خاصة بالايقاعات الجنوبية المتميزة. موسيقى الجنوب اثرت في كثيرا وكذلك الاعمال العربية الكلاسيكية. والموسيقى الغربية اضافت لي الكثير ولولا الموسيقى الغربية لما استطعت ان اضيف للموسيقى الشرقية لقد تعلمت من الغربيين احترام موسيقاهم والاهتمام بها وإيصالها الى الخلود، هذا علمني كيف نحترم موسيقانا ونقدمها بأسلوب راق».

يشعر المايسترو عثمان بعمق مسؤوليته كمبدع موسيقي، درس هذا الفن اكاديميا، في ان يطور موسيقاه ويرتقي بها الى العالمية، «من واجبنا ان نوصل موسيقانا للعالمية من غير ان نؤثر على التراث وفي اعتقادي اننا نستطيع فعل ذلك. انا وظفت الآلة الشرقية في مؤلفاتي بأسلوب آخر ولي مقطوعات كثيرة جدا مكتوبة لآلات شرقية وبصحبة آلات غربية او كونشرتو بين آلة شرقية والاوركسترا».

ألفت «كونشرتو الناي» بين الناي والاوركسترا وكتبته بطريقة تمكن أية اوركسترا في العالم من عزفه لأنه يخلو من المسافات المعروفة بين الموسيقى الشرقية والغربية التي تبلغ «ربع تون» باستثناء العزف المنفرد للناي حيث يستطيع العازف ان يرتجل.

الهدف من هذه المؤلفة هي ان أي عازف ناي يستطيع ان يعزف هذه المقطوعة مع أي فرقة اوركسترالية وفي أي مكان بالعالم، وهذا ما حدث اذ أن العازف الذي عزفها قدمها في باريس وروما وبرلين وغيرها من مدن العالم. كما اني ألفت كونشرتو القانون مع الاوركسترا، وألفت حوار (ديالوغ) يجمع بين الفلوت والناي وبمصاحبة الاوركسترا ولو تسمع هذه المؤلفة ستتأكد من ان الناي لا يقل ابداعا ومهارة عن الفلوت الغربي.

نسأل عثمان: لقد كانت دراستك ووعيك منذ طفولتك حتى حصولك على الشهادة العليا تنصب على الموسيقى الغربية، تدربت عليها، درستها، عزفتها، كيف استطعت التأليف للموسيقى العربية، هل هي تأثيرات البيئة مثلا؟

يجيب ببديهيته الموسيقية «نعم البيئة، فنحن في مجتمع معظم ما نسمعه موسيقى عربية. ولقد شعرت أنه من الممكن ان نعرض موسيقانا على الغرب وان نرتقي بها للعالمية وان يسمع المتلقي الغربي موسيقانا مثلما يسمع بيتهوفن او موتزارت. حتى يتحقق ذلك وتصل موسيقانا الى المتلقي الغربي يجب ان نمارس دورنا كموسيقيين محترفين ونعمل على توسيع وتطوير موسيقانا ونعيد صياغتها، من دون، وانا اشدد على ذلك، من دون ان نمس روحها الاصلية ونحرفها ونسيء الى جماليات التلحين والمقامات».

وينبه المايسترو عثمان الى مسألة غاية في الاهمية، وهي الدعم المادي والمعنوي الذي يجب ان يقدم للموسيقي العربي، فيقول «الموسيقى العربية حتى تنتشر عربيا او عالميا، تحتاج الى الدعم وتكاتف الموسيقيين العرب. لنسأل مثلا كم مرة سافرت الفرقة السيمفونية العراقية الى مصر وعزفت هناك وتعرفت على مثيلاتها من الفرق، وتعرف الموسيقيين على بعضهم البعض؟ أو كم من المرات عزفت الفرقة السيمفونية المصرية في سوريا، او كم من المرات استضافت تونس عازفين من السودان او العراق او لبنان.. وهكذا. هذه الامور مهمة للتقريب بين الموسيقيين العرب. ثم ان هناك موضوع الدعم المادي، التأليف الموسيقي، وإقامة الحفلات الاوركسترالية تحتاج الى ان تجمع العازفين وتدربهم وتشرف عليهم ومن ثم تسجل هذه الاعمال. انا مثلا عندي الكثير من الاعمال التي هي بحاجة الى تسجيل ووضعها في اسطوانة مضغوطة (سي دي) لكنني لا استطيع لأنها مكلفة. الموضوع ليس التسجيل وحسب بل فرقة موسيقية متكاملة وتدريب ووقت. هناك ايضا الدعم المعنوي وهو الاهم، مثلا ان يأتي احد المهتمين ويأخذ هذا العمل ويقدمه في صالة آلبرت هول في لندن ويحشد له اعلاميا وفنيا.

اذا كانت هناك دولة داعمة بمؤسساتها فمن المؤكد سنحقق الكثير وإذا لم يكن دور لأية دولة فيجب ان تكون هناك مؤسسات فنية مستقلة او اتحادات او جمعيات متخصصة».

ويضيف متحدثا عن تجربته في هذا المجال «التقيت مع اكثر من مؤلف عربي في مؤتمر الموسيقى الجادة في القاهرة السنوي وحضرت غالبية اعمال هذا المؤتمر وقدمت اعمالي وقدت اوركسترا القاهرة وتعرفت على موسيقيين من لبنان ومصر والسودان من خلال اعمالهم الممتازة جدا.. جدا.. جدا ولا استطيع وصفها كلاما، وفاجأتني هذه الاعمال كما فاجأني عدد مهم من العازفين المتميزين. وهؤلاء التقيتهم صدفة».

«في سنة 2004 نظمت المانيا لقاء للموسيقيين الذين لا يعيشون في بلدانهم (في المنفى) وقدمت اعمالي في متحف برلين، وهناك تعرفت على موسيقيين عرب مستوياتهم الفنية متميزة للغاية. هذه الاعمال لو جمعت وسجلت، لو نظمت لقاءات منتظمة ودورية للموسيقيين العرب من المؤكد ستحدث ثورة في الموسيقى العربية وستصل بسهولة الى المتلقي الغربي».

وحول وضع الموسيقى العربية يقول المايسترو عثمان «هناك من يلقي باللوم على الجمهور ويقول ان الجمهور يفضل هذه الموسيقى.. جمهورنا ذكي وناقد وواعي. عندما نقدم اعمالا كلاسيكية عربية لمحمد عبد الوهاب ومنذر جميل حافظ وصلحي الوادي نرى ان الجمهور يتفاعل معها ويعجب بها ويسألنا عنها، بالتأكيد هناك تقصير في اظهار اعمال مؤلفين عرب كبار، هناك مثلا مؤلفات منذر جميل حافظ وعبد الامير الصراف، لهما مؤلفات رائعة جدا وكذلك في انحاء مختلفة من العالم العربي ولكن كيف استطيع ان اسمع اعمالهم وكيف للمتلقي العربي ان يستمع لهم، تصور هناك مسابقات عالمية للموسيقى الكلاسيكية الغربية لكننا لم نسمع عن وجود مسابقة للموسيقى العربية الكلاسيكية، تراثنا غني جدا ودائما اعود للتراث لاستعيد عافيتي الموسيقية».

«أنا مثلا استمع كثيرا لأغاني كاظم الساهر، طريقة عرض الساهر للاغنية تختلف عن طريقة عرض الاخرين، فهو يقدم الاغنية بطريقة تحتم عليك احترام الاغنية بدءا باختياره للقصيدة او الكلمات مرورا بتلحينها ومن ثم أدائها وحتى طريقته في تقديم الفيديو كليب. الساهر يقدم الموسيقى بطريقة حديثة حتى وان رقص عليها الناس!».

وفي رده على سؤال لـ«الشرق الاوسط» في ما اذا كان قد تعاون مع الساهر او له اية تحفظات على تعاونه مع الساهر، أجاب «لم أتعاون مع الساهر ولا مانع عندي من التعاون معه في مجال التوزيع الموسيقي واحيي فيه اسلوبه في تقديم الموسيقى العربية بأسلوب محترم جدا وناجح، وهو منتشر في العالم العربي بصورة واسعة في زمن من الصعب على أي فنان موسيقي ان ينتشر فيه بأسلوب ناجح. انه يقدم فنا راقيا لن يتنازل عنه».

ويؤكد عثمان على اهمية تقديم المقام العراقي كما هو، «المقام العراقي محصن، ضمن تجاربي يعجبني ان اوزع سماعيات لكنني لا اقترب من المقام العراقي لأنه لا يمكن ان يقدم الا بالشكل الذي قدم فيه وله خصوصية في اسلوب تقديمه ولا أجرؤ على التحرش به هو هكذا كتب وهكذا يقدم وله خصوصيته».