«المفردة الحجازية».. الحاضر الغائب

«دام الأمل موجود فالنفس خضاعة» «حق العيون السود السمع والطاعة»

TT

بين «كرويتات» المقاهي المنتشرة في الحارات ووسط أجواء يغمرها الفرح منتشية برائحة «جراك» الشيش على منصات المركاز المكي في مساءات كانت ترسم ملامحها خيالات العاشقين السابحة خلف عباءات بنات الجيران بعيون اللهفة، أطلت المفردة الحجازية المأخوذة من اللغة الدارجة لمنطقة الحجاز المطعمة بضجيج الحياة في حارات جدة القديمة وقرقعة فناجين الشاي على دكة العمدة ولسان حالها يقول «عرفتك وإحنا لسه صغار / ولسه في ذمة الأقدار».

الكلمة الحجازية التي وصفها الملحن عبده مزيد بأنها «خفيفة ولطيفة سهلة الوصول للقلب»، جعلت كثيرا من رواد الغناء في ذلك الوقت، كالراحل طلال مداح ومحمد عبده وفوزي محسون وعبد الله محمد، يحرصون على التغني بها من خلال كتابها الذين ساهموا في وجودها من أمثال صالح جلال وثريا قابل والكبير إبراهيم خفاجي وياسين سمكري ومحمد طلعت، إلا أن بساطة هذه المفردة جعلت منها بطاقة المرور الأولى لقلوب الناس وتكوين الذائقة الفنية عند المتلقي، ولم تكتف بهذا العامل الوحيد لانتشارها، بل ساعدها الموال أو كما يطلق عليه الحجازيون «المجس» في هذا الوجود، احتفاء بالعروس، فإما أن تزف بمجس من عيون الشعر العربي الفصيح تطرب له قلوب تردد الكلمات القائلة «لا ادري أين غدى الفؤاد/ أفي يدي أم في يديك» «دعني اقبل وجنتيك / حسبي تقطب حاجبيك» «علمتنا أدب الغرام / وأنت مغمض ناظريك» «اريتنا فيها العزيز / ونحن في ذل لديك» «الله لا نمنن عليك / إذا رضيت علينا» أو زومال بلدي ترقص على نغماته الأصيلة مزامير الحي، فيما تتشابك أوتار العود والقانون في جديلة من التقاسيم على صدى آهات عفوية من الحضور. شعراء الحجاز الذين حاكوا بقصب المفردة الحجازية قماشة الأغنية السعودية وشكلوا في وقت من الأوقات عقدا ماسيا خطف بروح الكلمة الخفيفة العقول وكون وهجا أعطى فرصة كبيرة لانتشارها على مستوى الخليج، كما أوضحت ثريا قابل «بالرغم من قلة الإمكانيات المادية وضعف وسائل الإعلام في ذلك الوقت، إلا أن المهتمين بالأغنية السعودية استطاعوا أن ينشروها بإيقاعاتها وفرادة كلماتها ومخاطبتها الحس الإنساني». المفردة الحجازية التي ساهمت في وجود الأغنية السعودية أوائل الستينات وشهدت انطلاقتها ليس في الداخل فقط.

وبحسب تعبير الشاعر الغنائي إبراهيم خفاجي «ساهمت الكلمة الحجازية في انتشار الأغنية السعودية إلى خارج الوطن العربي والشاهد في ذلك تغني كثير من فناني العالم العربي اليوم بها من خلال الحفلات وإعادة تسجيلها».

وفي الوقت الذي تسيدت فيه المفردة الحجازية الغناء في منطقة الخليج، وتعلق بها كثيرون من خلال كتابها، كما أوضحت الشاعرة ثريا قابل «كانت تتسيد المفردة الحجازية الغناء في وقت كان فيه بعض الكتاب في مناطق أخرى يتخوفون من كتابة النصوص الغنائية».

إلا أن هذه السيادة لم تقتصر على أغنية الكبار بل رسمت ملامح أنشودة الطفل الخارجة من تراب البيئة الحجازية عبر رواشينها وأزقة حاراتها الضيقة في الزمن الجميل من خلال شعراء وهبوا أنفسهم لكتابة أغنية الطفل التي حفرت بعض نصوصها مكانا في قلوب أطفال السبعينات ورسختها أحلام الفتيات والصبيان العالقة بشقوق الذاكرة، وما زال بعضهم تدغدغ مشاعره تلك الأغنيات ويردد بصوت يجرحه حنين الذكريات لساحات مسجد قبا وبساتين العوالي في مدينة الحبيب المصطفى «عنبي يا عنبي يا عنابي/ يا هدية من أرض بلادي» «عنب المدينة يا اخواتي/ عناقيد بتلمع وتلالي».

وبين التسيد الذي مارسته عفوية المفردة الحجازية قديما، وتركيز معظم الفنانين على الكم، بدأ شعراء الحجاز في الاختفاء، إلا أنه وبحسب ثريا قابل «تمكن فرسان نجد من أمثال بدر بن عبد المحسن وخالد الفيصل ومحمد العبد الله الفيصل من عقد قران هذه المفردة مع كلمات الفارس النجدي وصهرها في بوتقة شكلت الكلمة السعودية بأسلوب كتابة محبب لم يخرج عن ذائقة المتلقي لطعم المفردة الحجازية، بل أضاف لها بعدا جماليا جديدا من خلال المجارير التي كانت تكتب بلهجة البادية».

إلا أن توجه غالبية الفنانين لارتداء كامل العباءة الخليجية ساهم في أن تفقد الأغنية السعودية بعضا من هويتها والتغني بنصوص مدفوعة الأجر، وكما أوضح الشاعر الغنائي ضياء خوجة «تسيد بعض النصوص المدعومة بشيك للتنفيذ جاء على حساب جودة النص، مما أتاح الفرصة لرواج بعض الأغاني الخليجية بين الفنانين السعوديين».

إلا أن السيادة لمفردة الشيك المدفوع الذي حل محل معجم المحيط لترجمة كلمات النص الغنائي وتفسير معانيه، كما أشارت الى ذلك ثريا قابل، ساهم إلى حد كبير في اختقاء المفردة الحجازية وسهل ركوب موجة الغناء باللهجة البيضا.

وفي ظل التغني باللهجة البيضا وعدم وجود دعم للكلمة الحجازية ساهمت فيها هجرة المطربين لأحضان الجمل اللحنية الخليجية ومحاولة التقرب من الثالوث اللحني الهندي والتركي والإيراني في وقت بدأت ترتفع فيه أسهم المؤشر إيذانا بإعلان الوفاة للمفردة الحجازية، فيما يعلو الجدل حول أسباب تلك الوفاة وتأرجحها بين كفة شركات الإنتاج وشعراء الكلمة الحجازية من الجيل الجديد من أمثال سعود الشربتلي وضياء خوجة وسعود سالم الذين أضاع كثير منهم البوصلة ولسان حالهم يقول «عند النقا ويلاه / ضيعت أنا روحي»، «يأهل الحرم بالله / ردوه علي روحي»، «يا أهل الشيم والكار / جيت احتكم ليكم»، وبحسب تعبير خوجة «هجر المفردة الحجازية يعود فيه اللوم إلى تخلي كتاب هذه الكلمة عن كتابتها».

تخلي كتاب الكلمة الحجازية عن كتابة النص الحجازي رفع عتب أعمدة الكلمة الحجازية ممن بقي منهم على قيد الحياة ولسان حالهم يقول «لسه برضوا جي تعاتب / جي تقول الود هان» «يا سلام لو بس تحاسب / قبل ما تقول كان وكان» «غصب عني يا حبيبي / ضاع من قلبي الحنان».

وبحسب تعبير الشاعر إبراهيم خفاجي «لغة المال هي التي تحكم رواج مفردة على أخرى ومن يملكها شركات الإنتاج وأصحاب الاستديوهات في حين أن من يكتب في الحجاز أناس بسطاء ليست لديهم القدرة على دفع الأموال لتغنى كلماتهم».

علامة التعجب التي أثارتها قامة الخفاجي «هل من المعقول أن أكتب كلمة وأدفع كلفتها حتى تغنى؟!» أبرزت الدور الذي تلعبه شركات الإنتاج ووسائل الإعلام في ظل وجود خمس قنوات موسيقية محسوبة على السعودية، إلا أنه وكما أوضحت ثريا «ليست المسألة تسيد لهجة على أخرى، إنما محاولة بعض القنوات الرفع من قدر وقيمة مدعين لا علاقة لهم بالفن مقابل إسقاط الأغنية السعودية، والدليل تسيد الأغنية الإماراتية بإيقاع واحد، فيما يظل الاستثناء الوحيد هما فنان العرب محمد عبده، وأخطبوط العود عبادي الجوهر اللذان يحافظان على هوية الأغنية السعودية».

وبين اعتبار بعض المتلقين من الجيل الجديد التغني بكلمات لرموز المفردة الحجازية، نوعا من التلاوة لماض عتيق، كما أشار لذلك الشاعر مدني شاكر الشريف وإمكانية تخصيص ساعة على الفضائيات المحسوبة على السعودية لبث هذا التراث الغنائي الذي تفرد ببساطة الكلمة وتميز الجملة اللحنية السعودية، كما أشار الى ذلك جواهرجي المفردة الحجازية إبراهيم خفاجي، تطل بعض الأصوات الخجولة التي ترى أن هذه الكلمة ما زالت موجودة، وبحسب عبده مزيد «المفردة موجودة لكنها تطلب الرحمة لتعود لساحة الغناء» معتمدة في ذلك على الأمل بعودة الطيور المهاجرة معللة النفس بكلمات لطالما رددها السواد الأعظم من السعوديين «الله يرد خطاك لدروب خلانك / لعيون ما تنساك لو طال هجرانك»، «دام الأمل موجود فالنفس خضاعة/ حق العيون السود السمع والطاعة».