ستيفن سوديبريغ يعود إلى منطقته الأثيرة في «فقاعة»

أكثر المخرجين الأميركيين جرأة في تجاربه السينمائية

TT

لقد استطاع المخرج الأميركي ستيفن سوديبريغ وخلال السنوات الخمس عشرة الماضية أن يكون احد أكثر المخرجين الأميركيين جرأة في تجاربه السينمائية. فرغم مغازلة هوليوود له وإخراجه لعدد من الأفلام الهوليودية التجارية فقد بقي وفيا للسينما المستقلة التي ابتدأ منها مشواره السينمائي وذلك في فلم «Sex، Lies، and Videotape» (جنس، أكاذيب، وشريط فيديو) والذي نال عنه سعفة «كان» عام 1989. ومنذ ذلك الحين قدم سوديبريغ العديد من التجارب السينمائية المتميزة والتي خاض فيها أنماطا سينمائية مختلفة وأساليب جديدة في السرد والتصوير السينمائي، مما جعل من سوديبيرغ على العكس من أقرانه بعيدا عن الإعلام الهوليودي ويحتفظ بجمهوره النخبوي الخاص.

وها هو سوديبريغ يعود إلى ذات المنطقة التي يتوق إليها دائما في فلمه الأخير «فقاعة» وذلك بعد أن قدم الجزء الثاني من الفيلم الجماهيري » Ocean"s Twelve » والذي شاركه فيه عدد كبير من نجوم هوليوود من أمثال براد بيت وجورج كلوني وجوليا روبرتس، إلا أن «فقاعة» هي تجربة سينمائية صرفة ومختلفة تمام الاختلاف عنما قدمه سودبيرغ في السنوات القليلة الماضية. ففي البداية اثر ستيفن الاستعانة بممثلين لم يسبق له القيام بأي تجربة تمثيلية قبل ذلك، إضافة إلى لجوئه إلى اللقطات الثابتة ومن زوايا حادة، كما كان لمرشحات الإضاءة والتلاعب بالألوان وجود واضح وذو دلالات سيميائية وسيكولوجية جلية. الفيلم يدور وبصورة بسيطة وهادئة حول ثلاثة أشخاص يعملون في احد مصانع الدمى المحلية في ولاية أوهايو: شاب وامرأة تعيش أولى مراحل كهولتها وفتاة التحقت للتو بذلك المصنع. الفيلم لا يبدو منذ دقائقه الأولى انه مهتم بسرد رواية قصصية لها بداية ونهاية وذروة وحدث، وإنما هي صور متتالية تحكي حالة تعيشها شخصيات الفيلم. فالأحداث روتينية والأنشطة والحوارات ذات طابع رتيب، وكان سودبيرغ قد لجأ لتعزيز هذه الصورة القاتمة والكئيبة إلى إعطاء صورة دقيقة ومفصلة عن كل مكان يتواجد فيه شخصيات الفيلم الرئيسية، فكل شيء يبدو دائما، والكل يسير بخطى معروفه سلفا، فمارثا تستيقظ في الصباح لكي تعتني بوالدها المقعد ثم تذهب إلى العمل وتلقي بذلك الشاب الذي تتناول وإياها غداءهما المكون من وجبات سريعة، ثم يعود كل منهما إلى بيته وهكذا دواليك، ولقد كان لتلك الدمى التي يقوم على صناعتها ذلك المصنع بابتسامتها الدائمة دلالة واضحة على الجمود الذي يعيشونه. إلا أن التحاق هذه الفتاة بالعمل في المصنع قد أضاف نوعا من التجديد على حياتهما على الأقل من حيث كونها وجها جديدا غير معتاد، فمن جهة قد استحوذت على انتباه ذلك الشاب والذي بالفعل خطى أولى الخطوات إلى إقامة علاقة عاطفية معها وهذا ما أثار حفيظة مارثا، إلا أن المعالجة السردية في الفيلم لم تتعد حدود الواقع المشاهد فقد كل شيء كان كما كان، ولم يكن هناك أي تسارع أو ارتفاع تدريجي لسخونة الأحداث، بما في ذلك تعامل أجهزة الشرطة ممثلا بشرطي ـ قام بدوره شرطي حقيقي ـ مع الأحداث الجنائية بصورة روتينية بحتة. ولكن وعلى الرغم من المعالجة المتميزة للفيلم ونجاح سودبيرغ في صنعه لهذه الأجواء الشاذة سينمائيا، إلا أن اعتماده على طاقم تمثيلي غير محترف اثر سلبا على الأداء الواقعي للشخصيات التي ظهر عليها بعض التكلف في الأداء والبطء في تفاعل الشخصيات مع بعضها البعض، وهو بذلك يطرح إشكالية حول الممثل غير المحترف وفاعليته في الفيلم السينمائي. فقد كانت أفلام البياض التي اشتهرت بها الموجة الفرنسية الجديدة والواقعية الإيطالية وغيرها من موجات الواقعية السينمائية تعتمد بشكل أساسي في بناء طاقمها التمثيلي على الممثل غير المحترف وأفراد يتم التقاطهم من الشارع، وهي تهدف من ذلك إلى انتشال السينما من مستنقع مسرحي لا زالت تعاني منه منذ السينما الصامتة أوائل القرن الماضي، وقد أعطت نتائجها الفاعلة في ذلك الوقت، إلا انه وفي ظل التقدم الملحوظ الذي حصل للنظريات التمثيل الحديثة بدفعه من مدارس سينمائية لها ثقلها وأثرها الفعال (كما كان مع استوديو الممثل في نيويورك) قد قلل من أهمية اللجوء على ممثلين غير محترفين بغية إضفاء روح واقعية على أداء الممثلين.

لقد تم عرض الفيلم في عدة مهرجانات دولية أبرزها مهرجان تورنتو وفينيسيا الدوليين، إلا انه وفي خطوة فريدة فقد تزامن عرض الفيلم في صالات السينما مع عرضه عبر الكيبل الأميركي وبعده بأربعة أيام فقط على أقراص الدي في دي في سابقة تكاد تكون الأولى من نوعها. وقد أثارت هذه الخطوة عددا من ردود الأفعال سواء كانت ايجابية أو سلبية فقد رفض بعض أصحاب صالات السينما هذه الفكرة كونها تحد من إقبال رواد السينما وبالتالي سيؤدي ذلك إلى القضاء تدريجيا على التفرد التي تتميز به السينما، إلا انه في المقابل فإنه ومن وجهة نظر اقتصادية فإن عرض الأفلام عن طريق الكيبل وحتى أقراص الدي في دي قد يقلل من القرصنة التي تعتبر معضلة لا تعاني منها غيرها من الوسائل الإعلامية المرئية كالتلفزيون وأفلام الكيبل.