صباح.. تخفي حزنها وشيبها بابتسامة

الشحرورة حائرة: كل شيء تغير حولي

TT

ألقابها عديدة، أعمالها لا تحصر ولا تعد، شهرتها تجاوزت العالم العربي واسمها يضرب به المثل على الساحة الغنائية. فصباح، او شحرورة الوادي كما تحب ان يناديها المقربون منها، لم تخل حياتها من الحلو والمر ولكنها غالباً ما تقول ان الانسان نفسه يجعل الامور جميلة او العكس. ومن جهتها جهدت لمقاربة الامور كما هي بواقعيتها، فكانت تكاد لا تبكي حتى ترتسم ابتسامتها من جديد على ثغرها وهي تردد «شو فيها الدني». وهذه العبارة التي طالما رددتها في مقابلاتها ولقاءاتها التلفزيونية الاذاعية والصحافية، فترجمتها اغنية جميلة كتب كلماتها الشاعر اللبناني الياس ناصر ولحنها جورج كرم فكانت تقريباً مسك ختام مشوارها الغنائي الذي ابت ان تضع له نقطة النهاية حتى تقارب الثمانين.

صباح التي ولدت في العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1927 في بلدة بدادون القريبة من بيروت، اسمها الحقيقي جانيت فغالي، عمها الشاعر الزجلي المعروف في لبنان اسعد الخوري فغالي المعروف بلقب «شحرور الوادي»، والدتها منيرة عقل وشقيقتها الممثلة الراحلة لمياء فغالي. تلقت دروسها في مدرسة اليسوعية في بيروت، فكانت تمثل وتغني في الحفلات المدرسية وهي لم تبلغ الثانية عشرة.

وتصف صباح تلك الحقبة قائلة «كل شيء تغير حولي، فانتقالنا من القرية الى العاصمة بيروت كان تحولاً جذرياً لي. فالمدارس مختلطة واولاد الحي وتلامذة الصف الصبيان كانوا يلاحقونني واحياناً يعترضون طريقي... الجميع كانوا يتسابقون لمرافقتي وكنت لا اهدأ. كنت في حيوية دائمة، اغني اينما كنت... في المدرسة، على الطريق، في فراشي، وعندما يجبرني اهلي على الصمت اغني تحت اللحاف! وفي عمر الاربعة عشر عاماً، وعندما كانت تؤدي دور البطولة في مسرحية مدرسية بعنوان «الاميرة هند»، شاهدها صهر الممثلة اللبنانية الاصل آسيا داغر التي كانت مشهورة في مصر واسمه قيصر يونس فاقترب من والدها قائلاً له: «حرام ان لا تدخل ابنتك مجال السينما». وبقيت هذه الكلمات ترن في اذني صباح الى حين التقت في حفلة غنائية اقامها لأهالي التلامذة مدير اذاعة «صوت اميركا» في تلك الايام كنعان الخطيب الذي اعجب بموهبتها الفنية وراح يشجعها على الغناء ويعلمها اصوله. وأعجبت ابنة الاربعة عشر عاماً بكنعان الذي كان عمره حوالي الاربعين وولدت بينهما عاطفة جياشة كانت حديث الناس... ولكن في ذلك الوقت كان نسيب آسيا داغر قد ارسل لها صورة فوتوغرافية لجانيت فغالي، فما كان من داغر الا ان ارسلت وراءها الى مصر. وهنا جن جنون مدير اذاعة صوت اميركا، الا ان الفنانة الشابة كانت جاهزة لترك كل شيء واللحاق بحلمها.

في مصر احضرت داغر كبار الملحنين للاستماع الى جانيت وابداء رأيهم بصوتها فكان اجماع في ان صوتها لا يزال غير مكتمل المعالم. الا ان المخرج هنري بركات وجدها صالحة للتمثيل السينمائي نظراً لخفة ظلها. ونشرت آسيا صورة لجانيت في مجلة «الصباح المصرية» طالبة الى القراء اختيار اسم فني للوجه السينمائي الجديد فكان اجماع على اسم «صباح».

وعام 1943 ظهرت صباح في اول فيلم سينمائي لها امام انور وجدي بعنوان «القلب له واحد» من اخراج بركات وفيه غنت الحان رياض السنباطي وزكريا احمد.

وتوالت بطولاتها السينمائية لتبلغ حوالي 85 فيلماً مع كبار الممثلين ومنهم رشدي اباظة، احمد مظهر، محمد فوزي وفريد الاطرش الذي رددت اكثر من مرة ان قصة حب ولدت بينهما ولكن لم تكتمل فصولها. ومن بين تلك الافلام: «الايدي الناعمة»، «شارع الحب»، «بلبل افندي»، «نار الشوق». اما آخر افلامها فكان «ليلة بكى فيها القمر» مع النجم حسين فهمي، وتناول قصتها مع زوجها ما قبل الاخير وسيم طبارة الذي رحل هذا العام، وفيه تروي اسباب انفصالها عنه. عرفت صباح بإجادتها غناء التراث اللبناني والمواويل من «ابو زلف» وغيرها، وأول الاغاني التي اطلقتها شعبياً «يا هويدا هويدا لك» من كلمات عبد الجليل وهبي. وتقول صباح: «لقد شددت دائماً على اداء الاغنية اللبنانية ان في افلامي او حفلات اضواء المدينة في مصر لان لبنان كان دائماً يعيش في قلبي».

لها حوالي 3500 اغنية من بينها اغاني المهرجانات والافلام والمسرحيات، وغنت لعمالقة العالم العربي ومنهم محمد عبد الوهاب (عالضيعة) وبليغ حمدي (يانا يانا) التي اعادت غناءها على طريقة الديو مع المطربة اللبنانية رلى سعد، وفريد الاطرش (يا دلع دلع) وغيرهم امثال زكي ناصيف، الاخوين رحباني، جمال سلامة، ملحم بركات، عصام رجي، وتوفيق الباشا... وفي الستينات غنت نشيد «الوطن الاكبر» للموسيقار محمد عبد الوهاب الى جانب كل من عبد الحليم حافظ، شادية، نجاة الصغيرة، فايزة كامل ووردة الجزائرية التي ما زالت تربطها بها علاقة صداقة حميمة...

قدمت صباح عشرات المهرجانات والمسرحيات ضمن مهرجانات بعلبك وبيت الدين، وجبيل وغيرها ومنها «موسم العز»، «دواليب الهوا»، «القلعة»، «الشلال»، «فينيقيا»، «شهر العسل»، «ست الكل»، وآخر مسرحياتها حملت عنوان «كنز الاسطورة» الى جانب زوجها السابق الفنان فادي لبنان والغنائي كريم ابو شقرا وورد الخال والامير الصغير.

وتعتبر صباح اول فنانة عربية غنت على مسرح الاولمبيا في باريس مع فرقة روميو لحود الاستعراضية منتصف السبعينات، كما وقفت على عدة مسارح معروفة منها «كارناغري هول» في نيويورك، ودار الاوبرا في سيدني (استراليا) وقصر الفنون في بلجيكا، وألبرت هول في لندن. وكذلك على مسارح لاس فيغاس وغيرها.

شهدت مسيرة صباح الفنية نكستين عربيتين احداهما جاءت من مصر عندما قاطعتها لعشر سنوات متتالية بعد تنازلها عن الجنسية المصرية ومحاولتها مغادرة مصر مصطحبة معها ابنتها هويدا بعد طلاقها من عازف الكمان انور منسي والد هويدا وهو مصري.

اما النكسة الثانية فكانت مقاطعة معظم الدول العربية لحفلاتها الغنائية اثر ظهورها في برنامج المنوعات الفرنسي Le Grand Echiquier والذي استضاف في الوقت نفسه المغني اليهودي انريكو ماسياس.

منحت وسام الارز الوطني في عهد رئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو. كما اطلق اسمها على ساحة في بلدة وادي شحرور. نالت ثلاثة اوسمة تكريمية من الملك الاردني الراحل الحسين بن طلال الذي قدم لها منزلاً في الاردن في بداية الحرب اللبنانية.

اعيد منحها الجنسية المصرية تكريماً لها بقرار من الرئيس الراحل انور السادات. فازت اكثر من خمس مرات على التوالي بلقب احب فنانة الى قلوب الجماهير في مصر في استفتاء اجرته الاذاعة المصرية كما كرمها الرئيسان التونسي الحبيب بورقيبة والسنغالي ليوبولد سينغور.

عرفت صباح باناقتها الدائمة وبشبابها الدائم، وهي غالباً ما تردد «نحن آل فغالي نحتفظ بشكلنا الخارجي الحسن حتى مع تقدمنا في السن... هكذا كان والدي وخالي وعمي»... وسئلت اكثر من مرة عن سر شبابها الدائم فكان ردها: «لا ادخن، لا اشرب الكحول، وانام باكراً». وعما اذا كان الحزن ترك ظلاله على محياها فقد كررت مرات عدة ان الانسان يمرن نفسه على السعادة، واذا شعرت بالحزن يوما ما فانها تعرف كيف تحوله الى تسلية.

ورغم الثروة المالية التي حققتها في مشوارها الفني، صارت صباح وحيدة في غرفة في فندق كونفورتيوم في الحازمية قرب بيروت، بعدما باعت منزلها، مشيرة الى انها قامت بهذه الخطوة لان بيتها صار كبيراً عليها فشعرت بالوحدة وقررت تركه. ولم تتوان عن عقد مؤتمر صحافي قبل اكثر من سنتين لتنفي فيه الشائعات التي تناولت خيانة عائلتها لها وسرقة كل ما تملك، وانها باعت منزلها لتستر من هم حولها وخاصة ابنتها هويدا. وكانت صباح قد واجهت مشكلات عديدة مع ابنتها الوحيدة التي اتهمتها اكثر من مرة باهمالها لها. وتقول صباح في هذا الصدد: «هويدا تلومني لأنني تركتها وهي صغيرة. كنت غارقة في عملي... وأنا ام والأم تسامح».

تزوجت صباح سبع مرات اولاها من نجيب الشماس الذي انجبت منه ابنها صباح الطبيب المقيم في الولايات المتحدة. ارتبطت بعازف الكمان المصري انور منسي والد ابنتها هويدا ثم ما لبثا ان تطلقا. بعدها تزوجت صباح من احمد فراج ولم تلبث ان افترقت عنه لتتزوج من الممثل المصري رشدي اباظة الذي لا تنفك تؤكد انه اكثر الرجال الذين احبوها. ومن ثم ارتبطت صباح بالنائب اللبناني الراحل يوسف حمود ولكنه لم يتحمل نجاحها وكثرة المعجبين بها فتطلقا ايضاً. اما قصتها مع الممثل والمسرحي اللبناني وسيم طبارة فكانت الاكثر قساوة عليها اذ افترقا بعد خيانته لها. وتأثرت بهذه العلاقة وحولتها الى فيلم سينمائي. اما زواجها من الفنان فادي لبنان الذي كان يصغرها بأكثر من عشرين عاماً فانعكس عليها سلباً اذ هاجمها الاعلام اللبناني يومذاك متهماً اياها بالجنون. وبعد مرور حوالى العشرين عاماً على زواجها الاخير انفصلت صباح عن فادي لبنان في فبراير (شباط) 2002 واعتبرت ان زواجها منه كان غلطة لن تسامح نفسها عليها. وعاشت صباح في الستينات قصة حب عاصفة مع ولي عهد الكويت الشيخ مبارك احمد الصباح لم تكتمل، وهي تكن محبة خاصة لأهل الكويت، وتعترف صباح بأنها لم تكن محبوبة من اي من ازواجها وتقول: «احببتهم جميعا، لكنهم اعتبروني «مدام بنك» لم يحبني احد».

وتعد صباح جمهورها بمعرض يضم ثيابها وبعض ممتلكاتها بعد ان تودع هذا الجمهور للمرة الاخيرة. وقد تعهد مصمم ازيائها وليم خوري بتنفيذ هذا الوعد خصوصاً انها تملك اكثر من مئتي زي وثوب ارتدتها في حفلاتها الغنائية ومهرجاناتها الفنية والمسرحيات. في مارس (آذار) 2003 اعلنت هجرتها نهائياً الى اميركا لتعيش الى جانب ولديها وشقيقها وعائلته نظراً لضيق سبل العيش في لبنان وشعورها بالوحدة. وفي مايو (ايار) من العام نفسه عادت الى لبنان لعدم قدرتها على العيش خارجه، وانتقلت للاقامة في منزل شقيقتها الممثلة لمياء فغالي وابنتها المخرجة كلودا عقل وعند وفاة اختها انتقلت الى الفندق ليكون مقراً نهائياً لها. في الشهر الاخير من العام 1999 تعرضت صباح لوعكة خطرة اوجبت دخولها المستشفى ثم دخلت للمرة الثانية في يناير (كانون الثاني) 2000.

اليوم تؤكد صباح انها باتت تنام ملء جفونها في غرفة الفندق، فقد استفاقت بعدما شربت كأس الخيبة من الناس جميعاً باستثناء خياطها وليم خوري ومزين شعرها جوزف غريب. ولعل اكثر من خيبها ازواج صنعت شهرة بعضهم فتركوها على قارعة الزمن دون رفيق...