السينما والخطاب الديني

TT

كنت قد أشرت في مقال سابق الى مسألة الموقف الديني من السينما بشكل سريع، ربما لم تتضح معه الفكرة جيدا، مما أثار بعض التساؤلات لدى عدد من الأصدقاء والقراء حول فكرة ان الموقف الديني من السينما هو موقف مبدئي تماما نتيجة فهم معين للدين ـ أيا كان مستوى هذا الفهم ـ وليس نتيجة طبيعية لسوء السينما العربية ذاتها فترة السبعينات الميلادية وتهافتها الفني، كما يعتقد كثير من المتابعين والمهتمين. وهنا أعود لأؤكد على هذه النقطة من جديد، حيث ان ما يمكن ان نسميه تهافتا فنيا للسينما العربية تلك الفترة كان له دور فعلي في تقديم نموذج مشوه للسينما في الوعي الاجتماعي والذي ما لبث ان تغير خلال هذه الفترة الطويلة بعد تحسن مستوى السينما العربية منذ تلك الفترة، واطلاع الناس ايضا على السينما بشكل اكثر شمولية عبر القنوات والاعلام عامة والإنترنت وعبر ارتياد الصالات السينمائية كلما سنحت الفرصة لهم، مما وسع الشريحة الاجتماعية المطالبة بالصالات السينمائية فضلا عن المقدرة للفيلم السينمائي والباحثة عنه مع كل صخب اعلامي حوله كما في السنوات الأخيرة. هذا بشأن الوعي الاجتماعي، أما اذا ما اتجهنا الى الموقف الديني فهو ليس بحاجة الى ان ينظر الى مستوى هذه السينما وقيمتها، فضلا على ان يحكم من خلال مبدأ (ان الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، فهو قد حسم المسألة مبكرا ومبكرا جدا، وليس هناك من مجال لاعتقاد ان السينما ذاتها ساهمت في صنع هذا الموقف. يقول الدكتور عوض القرني، الشيخ الداعية المعروف في تحقيق الزميل ميرزا الخويلدي، الذي نشر أخيرا في «الشرق الأوسط» «وان كانت هذه الفنون تستهدف نشر الفساد والالحاد والتشكيك في مسلمات الدين وتسهم في تخدير المجتمع وإلهائه أو لا تلتزم في أدائها بالضوابط والاحكام الشرعية مثل الوقوع في الاختلاط والتبرج والموسيقى، فهي محرمة والقائم عليها آثم»، ثم يضيف بتجاهل جريء للواقع، «كان للسينما دور مؤثر في الثقافة الغربية لكن الفضائيات والإنترنت سلبتها هذا الدور وفقدت أهميتها ولم تعد أكثر من متعة وتسلية، لكن المطالبين بالسينما في السعودية، اما انهم ما زالوا يعيشون معطيات الستينات الميلادية وما قبلها، او انهم يوظفون هذه المطالبة لمشروع اجتماعي تغييري، ليس المقصود منه السينما انما احدى أدواته». ويختتم كلامه قائلا: «نعم، يمكن للسينما ان تعبر عن الابداع والجمال ولكن وفق أي قيم ومنطق ورؤية للحياة، هذا هو السؤال الذي لا يريد دعاة السينما في السعودية ان يجيبوا عليه». واعتقد ان السؤال الأخير هذا لا يحتمل كل هذا التهويل المحاجج والاجابة عليه لايخطئها من يتابع ويعرف مطالبات المنادين بالسينما، فالقيم والرؤية، والمنطق الذي ستنطلق منه السينما، هي القيم الانسانية التي تعارفت عليها كل الشعوب من تسامح ومحبة ونشر للخير والعدل وتقارب بين مختلف الأطياف وغيرها من القيم التي عجز الخطاب الديني ان يكرسها في المجتمع وسط مشاحناته المتتالية وتشظي أتباعه أنفسهم واقتصاره على أضيق ما يمكن ان يفهم فيه هذا الدين العظيم.

ولكن دعونا نتناول الموضوع بطريقة اخرى. لنفرض مثلا انه تم الاعلان عن عرض عائلي للفيلم الايراني «لون الجنة» للمخرج مجيد مجيدي، والذي يحكي قصة رجل يحضر ابنه الكفيف في الاجازة ليقضي عطلته مع أختيه الصغيرتين بين الحقول والازهار التي يتلمسها بيديه الصغيرتين ويصغي لهمس أشجارها وأطيارها بأذنيه حتى يشعر بجمال هذه الحياة وينام مبتسما على قصص جدته الطيبة التي اصبحت امه بعد وفاة امه. لكن الأب الذي يخطط للزواج من جديد يشعر بثقل هذه المسؤولية وتربية هذا الطفل الكفيف، مما يدفعه للقيام بتصرف غير أبوي ويخلو من العطف والحنان.والآن لنتصور ما الموقف الذي سيقفه الدكتور القرني وغيره من مبشري الخطاب الديني تجاه هذا الاعلان، ومن جهة اخرى يمكننا ان نعرف موقفهم تجاه هذا الفيلم المليء بمعاني الانسانية والحس الايماني لمجرد ان الفيلم يحتوي على موسيقى جميلة ومؤثرة وامرأة عجوز، وربما مظهر للتدين الشيعي أيضا!