جميل راتب.. الفارس العنيد

سبق عمر الشريف للعالمية ولم يحظ ببريقها

TT

لحظات صمت فصلت بين مشوار عمره ذي الثمانين عاما وعبارات ثناء اعقبها تصفيق.. تلك اللحظات اخذته إلى الماضي البعيد، فغيبته عن الحاضر ليشرد إلى الوراء على طريقة الفلاش باك في السينما ليسترجع احلام الصبا وطموحات الشباب. ولينظر إلى صورة حياته فيجدها مليئة بالامال والالام والنجاحات والاخفاقات والصراعات مع النفس تارة ومع الاهل تارة أخرى حين كان يسعى لتحقيق اهداف عاشت بداخله. الصورة من بعيد للفنان جميل راتب يتوسط فيليب كوست سفير فرنسا في القاهرة وبعض زملائه من الفنانين المصريين، والمكان سفارة فرنسا في العاصمة المصرية، والسبب تقليد جميل راتب وسام جوقة الشرف الفرنسي برتبة فارس. نقترب بالكاميرا من وجه جميل راتب في لحظات الصمت فكانت الصورة كافية لقراءة المشوار الطويل وما يتخلله من تفاصيل دقيقة لشاب صغير اختمرت فكرة التمثيل بداخله منذ صغره واتاحت له نشأته الارستقراطية ان يتواصل مع الفن بارتياده المستمر للمسارح وقراءته لروايات شكسبير في فترة مبكرة وتقمصه شخصيات ابطالها. بذرة التمثيل بداخله تحتاج فقط لمن ينفض عنها تقاليد المجتمع التي تحول دون ظهورها للنور كبت الشاب جماح موهبته الطاغية، وعندما حاول التلميح لاسرته لم تكتف بالرفض بل نهرته تماما فما كان منه الا ان رضخ لأوامر والده وتفرغ للدراسة، وفي عام 1946 كان جميل راتب قد اتم عامه العشرين وامتلك من النضج ما يؤهله لاقناع والده بالسفر إلى فرنسا لدراسة العلوم السياسية والحقوق، وفي باريس انطلقت بذرة التمثيل بداخله وتحولت إلى شجرة من دون أن ينساق وراء عشوائية الشباب ليفجر طاقاته على مسارح باريس لكنه فكر بهدوء فوجد ان الدراسة ضرورة لصقل الموهبة فالتحق بمعهد «فيوكولوجيه» للتمثيل ومنه انطلق ليجوب مسارح فرنسا ويؤسس قاعدة جماهيرية كبيرة قبل ان تطأ قدمه خشبات المسارح المصرية. وكان جميل راتب العربي الوحيد الذي عمل في فرقة الكوميدي فرانسيز اعرق الفرق المسرحية في العالم ولم ينس الشاب المصري الذي تلألأ نجمه في مسارح باريس وطنه فالحنين اليه لم يتوقف ولم تشغله روائع المسرح العالمي عن ادق التفاصيل. وهاله عند عودته في منتصف الستينات ما تتعرض له اثار النوبة من اضرار كادت ان تعصف بها فجمع التبرعات من الفرنسيين لانقاذها بعدها ساقه الحنين للعروبة إلى تونس فسافر إلى هناك ليتولى ادارة المسرح القومي فيها والذي من خلاله اثرى الساحة التونسية بعشرات الاعمال الدرامية لكتاب فرنسيين وعرب، وبعد عامين فقط استقال جميل راتب من منصبه وعاد إلى فرنسا وفي هذه المرة وضع السينما نصب عينيه ليشارك في افلام ابرزها «المكتب الثاني ضد الارهاب» وبانكوك في بانكوك، ولورانس العرب، وحققت هذه الافلام مزيدا من النجومية له اكثر مما حققت مسرحياته «هاملت» و«تاجر البندقية» و«عطيل» و«ضجيج بلا طحن» و«اوه اميركا». في عام 1970 عاد جميل إلى القاهرة ليقدم اول اعماله المسرحية «كينج لير» على خشبة المسرح القومي لكن حلم تقديمه لدور عطيل في مصر ظل يطارده ولم يتحقق رغم انه قدمه بالفرنسية في باريس وبالعربية في تونس. وبعد «كينج لير» تعرف جميل راتب على كرم مطاوع الذي اختاره لبطولة مسرحية كتبها محمود دياب لتكون انطلاقته إلى عالم الفن في مصر وظل راتب حاملا الجميل لصديقه كرم مؤكدا كلما ورد اسمه انه كان احد اهم مخرجي المسرح ولا يقل موهبة عن كبار مخرجي المسرح العالميين. ومن المسرح إلى السينما حيث اسند المخرج الراحل صلاح ابوسيف إلى جميل راتب اول ادواره في السينما المصرية وجاء فيلم «الكداب» ليؤكد موهبة ذلك الممثل المثقف غير المتهافت على الوجود الفني ولتسعى اليه الادوار من دون أن يسعى اليها.

ومن «الكداب» انطلق ليقدم عددا قليلا من الافلام مقارنة بمن هم في نفس موهبته، ومن ابرز اعماله السينمائية «الصعود إلى الهاوية» و«كفاني يا قلب» و«انا الشرق» و«بيت بلا حنان» و«وجها لوجه» و«فتاه تبحث عن الحب» و«على من نطلق الرصاص» و«شفيقة ومتولي»، وتواصل جميل راتب مع جيل الشباب فشارك في فيلم «رحلة حب» و«سنة اولى نصب». ويدرك جميل راتب اهمية الدراما التليفزيونية ويجد في دراما محمد صبحي ضالته فيشاركه البطولة في مسلسل «رحلة المليون» و«ابناء ونيس» ويتواصل مع الاخرين فيشارك في مسلسلات «زيزينيا» و«التوأم» و«حد السكين» و«مسألة مبدأ» وكانت اخر اعماله التليفزيونية «كشكول لكل مواطن» الذي عرض في شهر رمضان الماضي.

وتتغير ملامح جميل راتب لتتخذ التجاعيد اماكن اخرى في وجهه تاركة لنا سطور اخرى من حياته احدها عن فيلم «الانتفاضة» الذي رفضت الرقابة المصرية عرضه وعرضته سورية، وفيه جسد جميل راتب شخصية جنرال اسرائيلي يتحدث العبرية تارة والعربية تارة اخرى، ومن اجل الدور تعلم اللغة العبرية حتى لا يستعين المخرج بالدوبلاج. وفي قراءتنا لصفحات جميل راتب كنا نبحث عن اجابة للسؤال.. لماذا لم يصل جميل راتب للعالمية مثل عمر الشريف وهو الذي سبقه إلى الاستوديوهات العالمية وجاءت الإجابة مكتوبة فى سطر اخر على وجهه: «عمر الشريف عمل في افلام اميركية كثيرة بعضها حقق جماهيرية كبيرة وهذا كان شرط العالمية، اما انا فقد كرهت جو السينما الاجنبية وفضلت العودة إلى القاهرة لاواجه اول ازمة نفسية حيث تم ترشيحي لاجسد شخصية الضابط في فيلم «الكرنك» لكني فوجئت بالمنتج ممدوح الليثي يسند الدور للفنان كمال الشناوي لانه اشهر مني».

وتستمر لحظات الصمت آخذة جميل راتب إلى الماضي لنقرأ الصفحة الاهم من حياته الخاصة فقد وقع في غرام فتاة فرنسية ووقعت في غرامه وبعد قصة حب تزوجا ورغم ان الله لم يرزقهما اطفالا الا ان قصة الحب مازالت مستمرة كما لو كانت قد بدأت بالامس القريب، ورغم ذلك «يشعر جميل بالاسى لانه يعشق فنه وانشغاله المستمر به جعله يهمل في حق زوجته لكن عزاءه انها على درجة كبيرة من الثقافة تجعلها تتفهم طبيعة عمله. وفي صفحة السمات الشخصية لمسنا ان جميل راتب يتحلى الصبر الشديد كما انه عنيد يتمسك بأرائه، لكنه يقول عن نفسه: «أعترف بكسلي ليس في العمل فقط ولكن في كل شيء كنت أتمنى لو كنت طائرا حرا أحلق في السماء من دون قيود».

وبين تجاعيد وجهه نقرأ سطورا أخرى عن حالة القلق التي يعيشها مؤخرا لا لانه يخشى الموت ولكن لان الموت اخذ منه معظم اصدقائه واحبابه يتعذب جميل راتب المرهف الحس بالفراق والألم كلما فقد عزيز وهو مقتنع بالفيلسوف اليوناني الذي روى ان صديقين يحب كلاهما الاخر قال احدهما للثاني اتمنى ان اموت بعدك حتى لا تتعذب بموتي. جميل الذي افاق لحظة تسلمه الوسام مؤخرا على أصوات التصفيق قال: «شكرا لكم فاليوم اشعر انني قدمت شيئا ينفع الناس ولهذا الوسام وقع كبير على حياتي يختلف عن كل الجوائز والتكريمات التي حصلت عليها من قبل ربما لانه جاءني في هذه السن التي احتاج فيها لكلمة شكر وثناء وتقدير».