غازي علي.. تلميذ السنباطي المفضل الذي تناسته الأغنية السعودية

يعلم الموسيقى بواسطة اليوغا في شقته المتواضعة.. وحب حياته امرأة قبطية

TT

«الموسيقى حياة» بنبرة رزينة هادئة؛ قالها الموسيقار السعودي غازي علي الذي انساب كالنهر من الذاكرة الغنائية العربية، ونحن جلوس في غرفة الدرس الموسيقية بشقته المتواضعة، حيث العود والأرج ومجموعة كبيرة من الكتب، ورسومات تشريحية لأعضاء الجسد والحنجرة، يرتشف قليلا من الماء الذي لا يفارقه بسبب السكر، فيما يغمض عينيه للحظة؛ يسترجع فيلما سينمائيا يعود به إلى الوراء؛ سنواته السبعين التي لم يعرف فيها سوى عشقه للموسيقى وشغفه باليوغا وتعلق قلبه بامرأتين. كان طفلا لم يدرك والده لوفاته وهو في الثالثة؛ لكن جنبات الحرم النبوي بالمدينة المنورة حيث ولد، ورطوبة الآذان، وحنان أمه كانت الواحة التي أضجعت في رحابها أناته الطفولية؛ لكن صوتا ما كان يغذي أعماقه ويهزه؛ إنه صوت معزوزة الدسوقي أمه الذي لم يغادره حتى الآن رغم رحيلها. يصفه برهافة «إنه في منتهى العذوبة»، فيما دندنتها وهي تطهو لأطفالها وتلاعبهم؛ لأغاني أم كلثوم وأسمهان كـ «فرق ما بينا ليه الزمان/ دا العمر بعدك كله هوان» كانت تحرك بها شعورا غائرا في نفس طفلها، يقول مرتحلا قافلته «والدتي وخالتي صوتهما جميل، خاصة عندما يرتلان القرآن الكريم».

كان غازي مفرطا في الشفافية منذ نعومة أنامله، لقد بكى وهو في الرابعة حين سمع لأول مرة الموسيقى في حياته من مذياع خاله، ويكتشف أنها بعد سنوات كانت محطة أنقرة الإذاعية، وأن الموشحات التركية هي من أثارت دموعه الصغيرة ببراءة فيما الموسيقى شقت طريقها إلى دمائه، يقول بصوت شجي: «لم أكن أعرف بعدها سوى أني أرغب في أن أكون موسيقيا». ورغم يتمه إلا أنه لم يشعر به؛ لأن أمه كما يراها «امرأة عظيمة»؛ لم تتزوج رغم حداثة سنها حين توفي والده، فعملت في الخياطة وتعليم الفتيات القراءة والكتابة والقرآن في بيتها بجانب تسكين الحجاج لتحصّل ثمن تربية كريمة لأطفالها، حتى زوجت ابنتيها، وتفرغت لابنيها، وحينها ارتحلوا جميعا إلى جدة القديمة، المدينة المتشحة بالرواشين العتيقة التي اقتطعت واديا سحيقا في ذكرياته حتى الآن فيقول: «حين أمشي بين أزقتها استرجع طفولتي وأصدقائي وذاكرة لا تنسى». ويكمل «أمي كانت حريصة على تعليمنا» تنهيدة تحمله لذكرياته المدرسية بين مدرسة النجاح بالمدينة المنورة والفلاح في جدة القديمة، حيث أكمل الابتدائية، وسرعان ما تقرر أمه الإقامة الدائمة بابنيها في جدة، لإكمال دراستهما المتوسطة التي فشل في إكمالها غازي؛ لأنه واقع في غرام موسيقى بنكهة القهوة العربية، ويذكر «كنت أكره الرياضيات، لكني أحببت الأدب والتاريخ». حدوتة غازي لم تبدأ بعد؛ فالشعر والموسيقى صنوان في مشواره السبعيني؛ ببساطة هو لم يكن فاشلا دراسيا؛ لأنه لم يكن طفلا مشاغبا؛ وإنما بيتوتي كما تقول أخته نازلي باجلال «اتصف بالهدوء وحبه للقراءة كثيرا، إنه مثقف جدا؛ وبيته مليء بالكتب المتنوعة العربية والإنجليزية».

كان أول مرة يفتح فيها عينيه على القراءة؛ هي حكايات مبسطة لألف ليلة وليلة للأطفال، أهدتها له أمه، ومنذ ذلك الوقت وهو يبحث عن التاريخ وأدب الرحلات، ولكن لماذا التاريخ بالذات.. لأنه يُمكن العقل من التفكير؟ يجيب؛ باعثا بصره من خلف نظارته، وقال: «سؤال صعب؛ أظنني كنت فضوليا، فرغبت في أن أعرف كيف كان يعيش هؤلاء». لكن ما حكاية الشعر معه؟ يسرد قصته قائلا: «أول مرة أعرف الشعر فيها حينما كنت في الصف الثالث الابتدائي، من خلال أغنية إذاعية لعبد الوهاب (جئت لا أعلم من أين) وذكرت المحطة اسم الشاعر إيليا أبو ماضي، أنصتُ إليها ولم أفهم معانيها». بضعة أشهر مرت، كان قد خرج من باب الرحمة بعد صلاته في الحرم؛ وشدته مكتبة (النمنكاني) كي يشتري جريدته الفكاهية (البعكوكة) لكنه يرى بين الكتب (أبو ماضي) على ديوان (الخمائل)؛ وسعره ريال لا يملكه، ويقول: «جمعت مصروفي المدرسي قرشا على قرش حتى اشتريته» وبدأت حينها علاقته بالشعر كشاعر.

كان حلمه كامتداد بحر جدة الذي عشقه وعشق أسراره، وأحب صيد السمك كثيرا فكانت هوايته الملهمة لتأمل خلق الله، لكن بقي هيامه بالعود الذي تعلمه بنفسه بإلهام الله كما يقول آسرا له، يتحدث «ساءت حالتي وحزنت والدتي لتعلقي بالموسيقى، وبعد أن أيقنت أني لن أنجح سوى بها؛ قررت مساعدتي على السفر إلى القاهرة لأتعلمها». القاهرة بأهراماتها العملاقة كانت بالنسبة له امتدادا آخر لما بعد بحر جدة؛ حين تأملها مليا وهو يقف أمامها داخلا المدينة المشرعة بضفاف النيل وهو شاب لم يتجاوز 17 سنة، حاملا معه أمنية وأغاني كان سجّلها للإذاعة السعودية مع بدء سماحها ببث الأغاني؛ فهو معروف بها؛ لكونه أحد أطفالها الذين شاركوا في برامجها مع رفقاء له مثل بدر كريم وعبد الله الراجح.

يقول: «ذهبت إلى الإذاعة المصرية والتقيت بمحمد الشجاع كبير لجنة إجازة الأصوات، قدمت له أغانيَّ، وحينها قال لي إني بحاجة إلى دراسة موسيقية، وان صوتي أوبرالي؛ فوجهني لدراسة الأوبرا في المدرسة الإيطالية بالقاهرة». في تلك الفترة كان الموسيقار أبو بكر خيرت قد أنشأ معهد الكونسرفتوار، الذي اتبع المنهج الموسيقي الأوروبي في التعليم، حيث الروائع الأوروبية الكلاسيكية، وبه قسم الأوبرا، ذهب إليه كي يسجل بعد أن درس لفترة في المدرسة الإيطالية، لكنه تفاجأ بأنه يشترط الثانوية العامة التي لم يحصل عليها بعد، ومن حسن حظه أن العديد من الراغبين في الدراسة أيضا؛ لم يحصلوا على الثانوية كحاله، مما اضطر المعهد إلى فتح قسم خاص لإكمال التعليم الثانوي، فانضم إليه.

وبعد مضي ثلاث سنوات على دراسته للأوبرا، فُتح القسم العالي لتعليم الموسيقى الشرقية بالكونسرفتوار، ودرس فيه عمالقة الموسيقى العربية من أمثال السنباطي وإبراهيم شفيق وجورج ميشيل وحورية عزمي، يقول غازي: «علمت أن السنباطي سيدرس فيه فلم اصدق، وسرعان ما أدرت وجهي للأوبرا، وقررت أن أنضم إلى صفه» يبتسم ويتابع «لكن رُفض طلبي». حينها لم يتردد أن يذهب إلى خيرت ليخبره بأنه قادم من خلف الصحراء كي يتعلم الموسيقى، وظروفه قادته لدراسة الأوبرا؛ فوافق حينها، وجاءت اللحظة الحاسمة للقائه بالسنباطي كي ينضم لصفه، يتأملها «دخلت عليه، ومعي اسطواناتي التي سجلتها لصوت العرب، وأعطيته لها، فسألني ما هذا؟! قلت أعمالي، قال تغني وتلحن كمان، طب سمعني، فأسمعته من أغانيه (فاضل يومين وحنبقى اثنين/ ترتاح ياقلبي ونامي يا عين)». يتابع بشغف «وبعد أسبوع واستماعه للإسطوانات؛ قال لي عندك إحساس ملحن أكثر من مغن، وقبل بي، ووجهني إلى قسم التأليف اللحني» وتخرج بعد مضي سبع سنوات في المعهد، أربع منها قضاها بين يدي السنباطي، فيما علمه جورج ميشيل عزف العود. وفي الكونسرفتوار لم تكن الموسيقى وحدها غرامه، لقد شاركت قلبه واهتمامه صوت جميل لفتاة تدرس الموسيقى في ذات المعهد، اتخذت عرشا من الهوى في نبضه لم يبارح مكانه حتى الآن، يقول «أحببتها وهي كذلك» ويكمل بعينين لامعتين «لقد كانت من أقباط مصر، وتوقعنا أن أسرتينا لن توافق على زواجنا، لكن والدتي وافقت، إلا أن أسرتها الثرية جدا رفضت رغم محاولاتها، فخفت على حياتها، لأنهم سيقتلونها، وانفصلنا» وكانت أول وآخر امرأة فكر أن يتزوجها.

السنباطي لم يكن مجرد شخصية عابرة في حياته، لقد قال عنه في أحد حواراته الصحافية بأنه «من أفضل تلامذته العرب» ولم تكن علاقته به علاقة تلميذ بأستاذه بقدر ما جمعتهم الصداقة، يقول غازي «لقد تعلمت منه التواضع، حتى أنه كان يوصلني من المعهد إلى بيتي في العجوزة رحمة بي من تعب المواصلات». حلم غازي لم ينته، قاده بعد فترة قصيرة من العمل في التلحين، إلى عالم برزخي آخر، ابتدأت لحظتها أمام كشك مدبولي لبيع الجرائد والكتب، دخله دون سابق تفكير، وصادف كتابا معلقا على حبل بمشبك غسيل، بعنوان (اليوغا) لمؤلف هندي ترجمه ثروت عكاشة. العنوان أعاد إليه نقاشاته مع أساتذته حول اليوغا وفلسفتها التطبيقية في تعلم الموسيقى، يقول «قرأت ووجدت أن أشياء كثيرة ما تزال تنقصني، ولا تكتمل إلا باليوغا» وبعد سنة في بيروت، عاد إلى القاهرة ليصادف في إحدى مكتباتها (اليوغا ينبوع السعادة)، اشتراه وقرأه عدة مرات، وجاء قراره بعد السؤال بالسفر إلى لندن لمدة شهرين للبحث في اليوغا، لكن الشهرين امتدا به إلى خمس سنوات لندنية لم يبارح فيها أرض مدينة الضباب حتى عاد إلى السعودية وهو في 30 من عمره. لكن لماذا لجأ إلى اليوغا التي يقول إنه حتى الآن وبعد مضي أكثر من ثلاثين سنة لم يستوفها؟! يجيب بعفوية «من أجل التوصل إلى كيفية سهلة لإيصال المعلومة الموسيقية إلى الطالب، فاليوغا تعني كيف تعرف نفسك بنفسك، وهي عبارة عن حرب الغرائز الدنيا والسمو الروحي» ألهذا بقيت أعزب؟؟ يقول «كانت سببا كبيرا في إبعادي عن الزواج تلك الفترة».

غازي كان محتاجا إلى شريحة صوتية فنية يطبق عليها دراسته اليوغا، فكان قراره بالتوجه إلى أرض الوطن، والعودة إلى حنينه جدة، يحمل خبرات موسيقية ولحنية وشهادة علمية كان هو أول من حصل عليها من أقرانه الموسيقيين كما قال ذلك أحد تلامذته الأوفياء عادل الصحافي الذي ارتبط معه منذ أكثر من 15 سنة، ويتحدث عنه «إنه موسيقي عبقري، وإنسان يمتلك قلبا كبيرا، لم أتعلم منه الموسيقى فقط، بل الإرادة والأدب والثقافة و اليوغا التي أفادتني كثيرا في حياتي». كان حلمه كبيرا بالعودة إلى الوطن ودعمه له في افتتاح أكاديمية موسيقية تحفظ التراث الفني السعودي من الضياع، يقول «كثير من تراثنا الفني ضاع وليت هناك من يعي أن الموسيقى أصبحت أداة سياسية في عصرنا الحاضر، تكسب الأمم معاركها بها» وهو ما أكده أحذ تلامذته الدكتور محمد الدربي قائلا «أكثر ما يدهشني فيه هو سعة صدره على طلابه، وكرمه وإنسانيته». وبين جمعية الثقافة والفنون التي أمضى بها سنة واحدة فقط، وانسحب، والإذاعة السعودية التي تعاون معها في تقديم برنامج موسيقي لم يكمل فيها العام أيضا، كان حلمه يتلاشى سوى في شقته الصغيرة الكائنة في عمائر الراجحي سابقا، حيث افتتح فصلا دراسيا لتعليم الموسيقى لطلبة يحرص على انتقائهم بشدة، كي يعتاش من ذلك، ويحقق هدفه من تعليم الموسيقى باليوغا أيضا، ويقول «لم استطع الاستمرار في الجمعية ولا الإذاعة، لأنها للأسف أبسط الإمكانات العلمية لم تتوفر بها، ولم أجد تعاونا مع مقترحاتي كما أني لا أحب أبدا أن أكون مرؤوسا». كان من أبرز طلاب الفنان طلال سلامة الذي جاءه وهو في 14 من عمره، علمه العزف على العود والغناء وكان من أفضل طلبته الذين اختارهم بعناية حتى أنه لم يأخذ منه أجرة، بل أهداه عوداً، وكذلك كان من ضمنهم أسماء لمعت، عباس إبراهيم ووعد، ممن تحولوا إلى المنازل الفارهة فيما بقي هو في شقته المتواضعة يعطي دون كلل أو ملل ويصنع نجوما فنية. سنوات وسنوات أمضاها غازي في شقته بأرض الوطن بعد أن سجل 80 عملا، ذهب بعضها نتيجة إهمال الإذاعة السعودية، فيما يخزن لديه ما يقارب 80 عملا آخر لم يتم تسجيلها لضعف الدعم والإمكانات ولأنه لم يجد من يمولها وهو أستاذ النجوم، بل حتى أنه لم يحصل أن هاتفه مسؤول في وزارة الثقافة والإعلام ليسأل عن حاله أو محاولة الاستفادة من تجربته الموسيقية العلمية الطويلة. غازي إن أنكره المجتمع الذي تمسك به اعتزل الناس والساحة الفنية التي يقول عنها «في أغلبها هي بيئة غير صحية لا أعرف التعاطي معها»، وبقي لطلبته من الشبان وأمه التي قبلت قدمه كي لا يتعلم قيادة السيارة، لكي لا يذهب ضحية حادث كما مات أخوه صبري الطيار الذي لم ينج من حادث طيران وقع به ولم يرحم عرسه الذي مضى عليه 21 يوما فقط، «لقد ترك بي أثرا كبيرا، فقد كان صديقي وأخي وفناناً عذب الصوت» فيما أصيبت أمه بحالة نفسية مؤلمة اعتزلت بعدها الناس سوى القراءة والقرآن وابنها غازي الذي تقاسمه البيت. تقول رانيا «لقد كان متعلقا جدا بجدتي، وكان يخدمها ويقوم بحاجياتها حتى عندما أصبحت قعيدة لا تتحرك كان هو من يهتم بها إلى أن فارقت الحياة» وتصف رانيا المشهد الأخير من رحلة الأم مع ابنها الذي وهبته إيمانها به وبموهبته في ظل مجتمع لم يقدر ما لديه من كنز، إنه فوق المؤلم، وتقول «شعرت بانتفاضة خالي وهو بجوار قدميها، يبكي ويستقبل وحدته». «بابا» و«أستاذ غازي» كلمات يسمعها غازي من ببغاءاته التي يعتني بتربيتها، وتنام معه في سريره، كم كان «يتمنى أن يكون لديه أبناء يراهم» لكن طيوره وبعض أقربائه وطلبته المخلصين هم الآن أقرب إليه من حبل الوريد، فيما تبقى لحظة إبداعه الموسيقية مع ذاته خلال وحدته في شقته المتواضعة التي يعيش بها؛ هي اللحظة التي يشعر بأنها بالنسبة له «الحياة».