لبنى عبد العزيز.. عروس النيل التي دخلت السينما من باب البطولة

المتمردة التي تركت الأضواء من أجل عيون الزوج

TT

في طفولتها لم تلعب بالعرائس مثل غيرها من البنات، كما لم تخرج للعب معهم في النادي أو المتنزهات. ولكن تلخصت جل متعتها في الذهاب برفقة والدها الكاتب الصحفي حامد عبد العزيز لمجالسة كبار الادباء والمثقفين في العصر الذهبي للأدب في مصر، تستمع دون أن تتحدث مفضلة الانصات. كما عشقت الفتاة الصغيرة قراءة الكتب التي كان يأتي بها إليها. فتقمصت شخصيات إحسان عبد القدوس، وعاشت أحداث روايات نجيب محفوظ، وأدركت المعاني وراء عبارات شكسبير وإبسن. ولتعترف بعد اعتلائها عرش النجومية أن تلك القراءات كانت سبباً في إجادتها لما قدمته من أدوار على شاشة السينما جعلتها واحدة من ابرز نجوم جيلها على الرغم من قصر عمرها الفني الذي لم يتجاوز السنوات العشر.. هي الفنانة لبنى عبد العزيز التي تقف هذه الايام أمام كاميرات الفيديو لتصور دورها في مسلسل «عمارة يعقوبيان» الذي من المفترض إذاعته في شهر رمضان المقبل، حيث تجسد شخصية دولت شقيقة البطل.

ولدت لبنى في القاهرة عام 1935، وتلقت تعليمها في مدرسة «سانت ماري» للبنات، وجاءت بدايتها الفنية الأولى في الإذاعة عندما كان عمرها لا يتجاوز العاشرة، حين قام بزيارتهم في منزل الاسرة عبد الحميد يونس مدير البرامج الاوروبية بالاذاعة وصديق والدها، وعندما رآها أدهشته طريقة إلقائها للأشعار وذكائها وتلقائيتها في الحديث، فرشحها للاشتراك في برنامج «ركن الأطفال» الذي كان يذاع على موجات البرنامج الأوروبي. ونجحت لبنى وتوطدت علاقتها بالاذاعة حتى أسند لها تقديم البرنامج وهي بعد لم تتعد الرابعة عشرة من العمر، وذلك لإجادتها التحدث باللغتين الفرنسية والانجليزية إلى جانب العربية. وظلت لبنى تعمل كمقدمة لركن الاطفال بدون أجر حتى صار عمرها 16 عاما، وهي ذات الفترة التي التحقت فيها بالدراسة في الجامعة الامريكية شأن أبناء الطبقة المثقفة. ورغم الدراسة لم تقطع صلتها بالاذاعة بل زادت مسؤوليتها عن البرنامج بعد أن باتت تتولى اعداده وتقديمه وإخراجه أيضاً.

كان عشق لبنى للثقافة والفنون سببا في اشتراكها في فريق التمثيل أثناء دراساتها بالجامعة الأمريكية، حيث قدمت عروضاً مسرحية على مسرح الجامعة لفتت إليها نظر النقاد المسرحيين إلى موهبتها التمثيلية. كما حدث عندما قدمت مسرحية «الشقيقات الثلاث» لتشيكوف. والتي جسدت فيها شخصية «ماشا» مما دفع الدكتور رشاد رشدي لكتابة 4 صفحات كاملة عنها وعن موهبتها في مجلة آخر ساعة. هذا غير ما كتبه الدكتور يوسف إدريس وفتحي غانم عنها. وتقول لبنى عن تلك المرحلة: «أعشق التمثيل وأجسد الادوار بفطرة ولم أكن أتوقع وقت انضمامي لفريق الجامعة أن ألفت نظر هؤلاء العظام». ووسط هذا الزخم من الاعجاب انهالت العروض السينمائية على لبنى ولكنها رفضتها جميعاً. وهو ما بررته بقولها: «لم يكن سبب رفضي ضعف النصوص المعروضة علي أو عدم مناسبتها لي، ولكن كان السبب صفعة على وجهي من يد خالي حين عبرت له ذات مرة عن حبي للتمثيل في السينما، وخشيت وقتها معارضته فآثرت التريث لحين الانتهاء من الدراسة». بعد انتهائها من دراستها في الجامعة، حصلت لبنى على منحة للدراسة في جامعة كاليفورنيا بأمريكا وهو ما أبعدها بعض الشيء عن هوايتها في عالم التمثيل. وبعد حصولها على الماجستير في الفن المسرحي والسينوغرافي من الولايات المتحدة الأمريكية، راسلت لبنى جريدة الاهرام بعدد من التحقيقات التي كانت تكتبها عن استوديوهات هوليوود التي كانت تنقل أخبارها أيضاً. ثم ما لبثت أن عادت للقاهرة مرة أخرى لتعمل كمحررة بجريدة الأهرام. ولتلعب الاقدار دورها في اقتحام لبنى عالم التمثيل مرة أخرى. حدث ذلك في عام 1957 عندما كانت تعد لتحقيق صحفي تضمن المقارنة بين السينما الأمريكية والمصرية، وتطلب ذلك منها الذهاب إلى استوديو الأهرام لتلتقي هناك بالمنتج رمسيس نجيب والمخرج صلاح أبو سيف، اللذين أدركا منذ اللحظة الاولى أنهما امام موهبة فنية تنبض بالتلقائية. فعرضا عليها العمل في السينما لكنها رفضت كعادتها. وهو ما دفع رمسيس نجيب إلى الذهاب لوالدها ليقنعه بأن يترك ابنته تدخل عالم الفن، فترك لها والدها الامر برمته لتتخذ فيه ما تراه. فطلبت مهلة للتفكير الا أن القدر لم يمنحها إياها، حيث فوجئت لبنى بالعندليب عبد الحليم حافظ يطلبها في اليوم التالي للقائه، فذهبت اليه ووجدت عنده أستاذها الكاتب إحسان عبد القدوس الذي كتب قصة الفيلم وكان جاراً وصديقاً لوالدها والمخرج صلاح أبو سيف، حيث اشترك الجميع في إقناعها ببطولة فيلم «الوسادة الخالية». كان العرض مغرياً بشكل لم تستطع رفضه، فخرجت من ذلك اللقاء وهي تحمل سيناريو الفيلم بين يديها. وعلى الرغم من أن أجر لبنى في ذلك الفيلم لم يتجاوز مبلغ 100 جنيه فقط، إلا أنها خرجت من الفيلم وهي تحمل تقدير الجمهور وإعجابه بها، فقد حقق الفيلم نجاحاً هائلاً عند عرضه وأصبحت قصة الحب التي جمعت بين «سميحة» و«صلاح»، حديث محبي السينما. وحتى الان لا تزال تلك القصة واحدة من أشهر قصص الحب على الشاشة الكبيرة.

وقد وصف بعض النقاد تلك التجربة للبنى عبد العزيز ووقوفها لأول مرة أمام نجم محبوب ومشهور مثل عبد الحليم حافظ بأنها كانت سلاحاً ذا حدين، وبرروا ذلك بالقول أن الفيلم لو أصابه الفشل لانتهت علاقة لبنى مع السينما قبل أن تبدأ، لكن موهبتها كانت سلاحها الذي احتمت به في تلك التجربة التي جعلتها نجمة من نجوم الزمن الجميل. بعد ذلك الفيلم قدمت لبنى في السينما أفلاما هامة أصرت فيها على التحرر من شخصية «سميحة» الفتاة الرومانسية الحالمة، وهو ما زاد من تألقها على الشاشة، ولتتألق في شخصيات أخرى، مثل دور «أميرة» الذي قدمته في الفيلم الكوميدي «آه من حواء» مع الفنان رشدي أباظة، وشخصية «جهاد» في فيلم «واإسلاماه» مع أحمد مظهر وحسين رياض، و«نور» ابنة سائس الخيل في فيلم «غرام الأسياد» مع عمر الشريف وأحمد مظهر، بالاضافة إلى عدد آخر من الافلام التي صارت من علامات السينما المصرية مثل: «هذا هو الحب» مع الفنان يحيي شاهين، و«رسالة من امرأة مجهولة» مع فريد الأطرش، و«أنا حرة» مع شكري سرحان، و«هاميس» مع رشدي اباظة.

وتتجسد موهبة تلك الفنانة عندما قدمت شخصية خادمة تتحلل من مظاهر مهنتها في بعض الاوقات وتصاحب رجالاً يتوهمون فيها الفتاة الارستقراطية بعد أن تنجح في اخفاء حقيقتها عنهم، في فيلم «هي والرجال» مع المخرج حسن الإمام الذي نجح في تقديم لبنى بشكل لم يألفه الجمهور من قبل.

وتواصل لبنى عبد العزيز رحلتها مع حسن الإمام الذي قدمت معه آخر أفلامها السينمائية وحمل عنوان «إضراب الشحاتين» عام 1967 مع كرم مطاوع، وجسدت من خلاله دور فتاة متسولة دون أن تعرف أنه آخر أعمالها في السينما. وتتذكر لبنى ذلك الفيلم قائلة: «بعد انتهائي من تصوير فيلم «إضراب الشحاتين» قال لي المخرج حسن الامام إنني كما صنعت منك خادمة وشحاته، فسوف أجعلك أشهر راقصة، وكان يعني بذلك دور زينب في فيلم «خللي بالك من زوزو» الذي جسدته الراحلة سعاد حسني، لم أكن أخطط للهجرة ولكن كان زوجي يعمل في الخارج فقررت التواجد معه تاركة الفن». سافرت لبنى إلى لندن عام 1967 ومنها إلى أمريكا لتلحق بزوجها الدكتور إسماعيل برادة الذي اختارت البقاء بجواره بدلاً من الابتعاد عنه وفضلته على الاضواء التي لم تكن تبهرها.

وعاشت لبنى في الولايات المتحدة الامريكية نحو 29 عاماً ابتعدت فيها عن الفن وعملت خلالها في تقديم البرامج ببعض المحطات الإذاعية هناك، ولكنها توقفت عن العمل بعد إنجابها لابنتيها مريم ودنيا، لرغبتها في أن تعطي لبيتها وزوجها مزيداً من الوقت والاهتمام. وأثناء هجرتها لأمريكا مرت على لبنى العديد من المواقف الصعبة، بدأت في السنوات الأولى للهجرة والتي جاءت متزامنة مع نكسة 1967، وهي الفترة التي تقول عنها لبنى: «تغيرت معاملة الامريكيين للعرب وللمصريين وصارت سيئة للغاية، وكنت أمكث في بيتي بولاية مينسوتا أياماً طويلة دون رغبة في الخروج. لقد أذلنا العدو في أمريكا آنذاك بطريقة غير معقولة».

وبعد سنوات من الغربة عادت لبنى إلى مصر في عام 1998 وكانت سعادتها في مطار القاهرة لا توصف حين كان الناس ينادونها باسمها وأسماء الشخصيات التي جسدتها في أفلامها، فلم تكن تتخيل أن يتذكرها الناس بعد كل تلك السنوات. وفي العام الماضي تعرضت لبنى لتجربة لم تكن تتخيل أن تمر بها حين تعاقد معها قطاع الإنتاج بالتلفزيون المصري على القيام ببطولة مسلسل «السائرون نياماً» مع المخرج هاني لاشين، وهو الامر الذي لم تسع له لبنى عبد العزيز ولكنها وافقت بعد الإلحاح عليها من قبل المسؤولين في التلفزيون. ولكنها فوجئت بعد تغيير رئيس قطاع الانتاج محيي الغمري ومجيء راوية بياض لرئاسة القطاع، بإسناد دور البطولة إلى فردوس عبد الحميد وتجاهل العقد الموقع معها، وهو ما أثار حفيظتها وحزنها وبخاصة مع انكار رئيسة القطاع الجديدة التعاقد مع لبنى عبد العزيز، التي أصرت على تصعيد الموقف لوزير الاعلام، الذي أمر بالتحقيق في الواقعة ليثبت حق لبنى التي رفضت بعد ثبوت صحة موقفها، العمل في المسلسل، ليصدر قرار بوقف العمل فيه. وقتها فكرت لبنى في العودة لأمريكا مرة أخرى بعدما شعرت بإهانة لها ولتاريخها الفني، ولم يمنعها من السفر مجدداً سوى أنها وجدت الجميع يلتف حولها ويساندها ويستنكر ما حدث لها ومنهم نقيب الممثلين دكتور أشرف زكي، الذي أكد لها أن ما حدث معها أمر غير مقبول لن تقف النقابة معه مكتوفة الأيدي. كما عرض عليها في تلك الفترة المشاركة في بطولة مسلسل «عمارة يعقوبيان» الذي بدأت تصويره في بداية الشهر الجاري.

وعلى الرغم من تفوقها السينمائي الا أن تقلدها لوسام النيل الذي منحها إياه الرئيس جمال عبد الناصر، لم يكن عن دور جسدته على الشاشة الكبيرة، ولكنها تقلدته لتقديمها لبرنامج إذاعي باللغة الانجليزية فضحت من خلاله ممارسات العدو الصهيوني أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وبعد عودتها لمصر تم تكريمها في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته التاسعة والعشرين عن مجمل أعمالها التي بلغت 18 فيلماً سينمائياً.