فيلم «الماء» الهندي: صرخة سيتردد صداها طويلا في الضمير الإنساني

وفاة الزوج جريمة تدفع الزوجة ثمنها حتى الموت

مشهدان من الفيلم
TT

"الأرملة يجب أن تعاني لفترة طويلة حتى الموت، رابطة الجأش وعفيفة، الزوجة الفاضلة المتعففة منذ وفاة زوجها تذهب إلى الجنة، أما من لا تكون وفية له فستخلق من جديد في رحم ابن آوى".

بهذا الاقتباس من أحد النصوص الهندوسية المقدسة، تبدأ ديبا ميهتا فيلمها "الماء" الهندي، بإنتاج كندي. وبهذا الفيلم تنهي المخرجة الهندية الأصل والمقيمة في كندا "ديبا ميهتا" ثلاثيتها التي تدور حول قضايا وهموم نسائية، التي سبق أن بدأتها بفيلمي "النار"(1996) و"الأرض" (1998). وإن كان فيلم الماء 2006 هو أقوى أفلام الثلاثية كما أشار كثير من النقاد، فقد حاز على عدة جوائز وترشيحات، كان أهمها ترشيحه لجائزة أوسكار 2006 كأفضل فيلم أجنبي. زمن الفيلم هو عام 1938 إبان الاحتلال البريطاني للهند، وبزوغ نجم المهاتما غاندي، الزعيم الروحي للهند، وقائد حركة الاستقلال الهندية. أما المكان فهو دار للأرامل في مدينة فارانسي الواقعة على نهر الكانج المقدس لدى الهندوس. ويناقش الفيلم، كما هو واضح من الاقتباس، وضع الأرامل لدى الطائفة الهندوسية في الهند. فالأرملة حسب تعاليم هذه الديانة، وكما يفسرها أهل الدين، لديها ثلاثة خيارات: إما أن تدفن مع زوجها ، أو أن تتزوج بأخيه إذا قبل هو وقبلت عائلته، أو أن توضع في دار للأرامل تقضي فيه ما تبقى من عمرها، فهم يفسرون وفاة الزوج على أنها نتيجة لخطايا الزوجة؛ ولذا فهي تكفر عن ذنبها بقية عمرها بالزهد الكامل في الحياة، واعتزال مباهجها حتى الموت.

يطرح الفيلم هذه القضية من خلال ثلاث شخصيات محورية. وأول هذه الشخصيات هي "تشويا" (سارالا) الطفلة ذات الثمانية أعوام التي لا تذكر أن لها زوجاً، ولكنها أصبحت بعد موته أرملة. فحلق شعرها، وألبست الرداء الأبيض الخاص بالأرامل، وأودعت الدار وهي تصرخ رافضة المكوث فيه ومصرة على العودة إلى بيت أبيها. وجود الطفلة في الدار يحدث نوعاً من الاضطراب لدى النساء القابعات فيها منذ زمن. فالطفلة بروحها المتمردة وبإثارتها للأسئلة تبث روحاً جديدة تعدي بعض الأرامل وتجعلهن أكثر قدرة على الرفض، خاصة أقرب شخصيتين لها في الدار وبطلتي الفيلم: كالياني (ليزا راي) وشاكونتلا (سيما بيسواس). فكالياني الجميلة والشابة الوحيدة التي لم يحلق شعرها في الدار،لأسباب سيعرفها المشاهد بعد تقدم الأحداث في الفيلم، تحاول التمرد على وضعها في الدار، بعد أن تقع في حب نارياني (جون أبراهام)، المحامي الوطني الذي ينتمي إلى حركة غاندي، وتصر على الزواج منه، مما يصعد الأحداث درامياً. أما شاكونتلا ، المرأة الأكبر سناً والأكثر تعبدا وتدينا والمسؤولة عن الدار،فتحسم، أخيراً، بفضل تشويا، صراعاً بين ما يمليه عليها ضميرها وما يمليه عليها دينها، وقد كانت اللقطة الأخيرة في الفيلم لها من أكثر اللقطات تعبيراً وقوة.

الفيلم، كما تقول مخرجته وكاتبة نصه، ليس ضد الهندوسية، وإنما هو ضد تفاسير رجال الدين الخاطئة لها. ولكن يبدو أن وجهة نظرها هذه لم تكن مفهومة لدى الطائفة الهندوسية في الهند. فقد بدأت المخرجة تصوير الفيلم عام 2000، إلا أن مجموعات من المتدينين الهندوس قامت بمهاجمة مواقع التصوير، وإحراقها، وتنظيم مظاهرات حاشدة، تم فيها إحراق صور وتماثيل قطنية تمثل ديبا ميهتا، كما تلقت المخرجة تهديدات بالقتل، لأن كثيراً من الهندوس توقعوا أن الفيلم ضد ديانتهم. هذه الأحداث، اضطرت المخرجة إلى تأجيل تصوير الفيلم لمدة أربع سنوات قامت خلالها بإخراج فيلمين آخرين هما: "بوليود/هوليود" (2002) و"جمهورية الحب" (2003) .ثم عادت عام 2004 إلى تصويره، لكن في سيريلانكا بدلا من الهند، وبطاقم تمثيل جديد. وكان عليها بعد تغيير المكان أن تبني ديكورات تماثل المعابد الهندوسية لعدم وجودها في سيرلانكا حيث الغالبية بوذية.

قد يعاب على الفيلم طول بعض المشاهد، لكن لا بد من الإشادة بأن التصوير والموسيقى والأداء المتمكن خفف من الإطالة. فقد كانت كاميرا المصور المعروف في الهند "جايلز نوتجينز" قادرة على تصوير مناظر ساحرة للطبيعة تشع لمعاناً. وكانت مقابلة ألوان الطبيعة للون الأبيض الذي ترتديه الأرامل توحي بجمال الحياة التي تحيط بهن من كل جانب ولكنهن محرومات منها. ولعبت الموسيقى التصويرية التي قام بوضعها مايكل دونا وألحان "أي آر رحمان" للأغاني، عاملاً هاماً في تقوية الجانب الدرامي في الفيلم، خاصة وأن الأغاني تعتبر عنصراً أساسياً في الفيلم الهندي. أما الممثلون فقد أدوا جميعاً أدوارهم باقتدار وقد كانت المخرجة موفقة في اختيار الشخصيات الثلاث على وجه التحديد.

كان الفيلم أيضاً متوازناً في طرحه وقادراً على الاقتراب من العالم الذي صوره بكثير من الحب والتفهم. فحتى شخصية مادومتي (مانوراما)، الشخصية الأكثر تسلطاً وجبروتاً في الدار، والتي تتاجر بأجساد بعض القاطنات في الدار، لم تخل من لمسة إنسانية (كحزنها وبكائها على ببغائها عند موته)، كما أنه على الرغم من الأجواء الحزينة التي يصورها الفيلم، كانت هناك مساحة لبعض اللقطات الجميلة من الضحك والمرح وقد كان مشهد احتفال الأرامل بعيد الألوان وهو العيد الديني الوحيد الذي يسمح للأرامل في الهند بالاحتفال به مشهدا يضج بالألوان الزاهية والفرح.

حضور الماء كان كبيراً ومكثفاً في الفيلم. فنحن نشاهده محيطاً بالأرامل من كل جانب وهن يلجأن إليه في كل وقت للتبرك. فهو رمز القداسة ورمز الطهارة، ولكنه، في النهاية، كان طريق الموت. وهذا إسقاط واضح على ما يمكن أن يفعله الدين بأتباعه في حالة ان كان هناك مغالاة ومغالطات في تفسيره. يعتقد الكثير من النقاد أن ديبا ميهتا بفيلمها هذا قد أصبحت واحدة من المخرجين الواعدين في السينما الهندية، وأنها ممن يمثلون الصوت الجديد للهند. فهي ولا شك قد أثارت قضية إنسانية لإحدى الفئات المهمشة في المجتمع الهندي، والتي سيظل صداها يتردد طويلاً في الضمير الإنساني.