فاغنر: ينعم بتمزقاته تحت ظل شوبنهاور

فوزي كريم

TT

عادة ما يبدو العمل الابداعي لنا بين عالمين. فهناك فنان ينتسب الى موضوعه، وفنان ينتسب الى نفسه. بمعنى آخر، هناك فنان موضوعي يطمئن الى الاعراف، وعبرها يعالج محن الانسان ومسراته، بمباشرة ترضي كل حاجة. وهناك فنان ذاتي لا يطمئن الى موضوعه، ولا يجد وفاقا مع ذاته. رحيله داخلي، ويولد من اكتشافاته «اشكال» فنه التي لا سابق لها. من الاول نعرف «هوميروس» و«شكسبير» وكل شاعر على شاكلتهما. ومن الثاني «فيرجل» حتى بودلير. في شعرنا العربي يبدو نموذج ابي تمام ملائما للأول، في حين يليق ابو نواس للثاني.

في الموسيقى، اذا كان فيردي نموذجا رائعا للأول، فإن فاغنر هو النموذج الامثل للثاني، ولعله نموذج استثنائي في هذا التوق للابحار الخطر في الداخل، والكشف عما وراء حجاب الوعي، قبل «فرويد» بنصف فرن، وفي هذا التجسيد الدرامي للافكار الكبيرة، والتوق للشكل الجديد، الذي هو محض تمظهر حسي للاحتراقات غير الظاهرة.

فاغنر مذهل في كل شيء، والاستغراق في موسيقاه يولد ادمانا. وهذا الادمان يدفع دائما الى حافة خطرة، حافة مشارف اللاوعي الغامض المجهول، حيث قوى الغرائز العمياء والتطلعات الظامئة والرغائب المحاصرة.

وفاغنر مذهل، لانه توحيد فريد بين قوى الفن وقوى الفكر. فهو اغنية شوبنهاورية. فلسفة انسان لا يحسن اداؤها الا بالانشاد والعزف والشعر ولذلك كان فاغنر موسيقيا وشاعرا ودراميا وفيلسوفا ومفكر يوتوبيا، يطمح بتغيير نفسه ومحيطه والعالم.

الا ان فاغنز 1813 ـ 1883 لم يكن الا وريث تيار بدأه «غلوك» باتجاه الدراما الموسيقية، وتخليص الاوبرا من ثياب البهرجة المسلية. تماما كما كان «فيردي» في الجهة الثانية، وريث تقاليد «نابولي» من «موتسارت» الى «روسيني» الا انه استثناء في تياره، لم تهدأ موجات الاختلاف المتطرفة بشأنه حتى اليوم. واعماله ابراج ضخمة لا تخفى عن عين. يقر بها قادة الاوركسترا والمغنون الكبار بحذر لاختبار وامتحان قدراتهم والقلة القليلة من تفلت بتفوق، لأن الاداء الاوركسترالي مشحون بمشاعر وافكار يجب ان تتضح في هذه اللغة المجردة، كما ان الحوار اغنية ممتدة واحدة وغير منتهية، على مسرح تتواصل فيه الاحداث، احيانا لساعات خمس.

من اوبراته الرائعة، التي تبدو اغنية لا منتهية واحدة «تريستان وايزولدة» الشهيرة، والاخرى «بارسيفال» وكلاهما يعتمد اسطورة جرمانية، ويبحث في موضوعة انسانية مركزية، لكن شتان ما بين غايتيهما.

الأولى حكاية حب شائكة، بمعالجة شائكة، كان فاغنر حينها، في منفاه السويسري، قد انجز النص الشعري لأوبراه الملحمية «الحلقة» ثم استدار منشغلا في وضع «تريستان»، لأنه كان في غمرة حب جديد للسيدة ماتيلدة، زوجة صديقه وراعيه.. وفاغنز خبير في التورط بهذا النوع من الحب. انجز الاوبرا وعرضت عام 1865.

الحب هنا رغائب وغرائز متفجرة متطلعة، لا تصل حد الانجاز والاشباع الا في الموت. وتلخيص الحكاية قد لا ينفع كثيرا في تقريب هذه الدلالة السيكولوجية. ان موت «تريستان» وانتحار «ايزولدة» كان خيارا قد توج الاوبرا، التي تشبه عملا سيمفونيا، في امتدادها المتطلع الى وحدة الحب والموت والاغنية الاخيرة الشهيرة: Liebestod التي تعني «الموت في الحب» أو «الحب في الموت»، تؤديها «ايزولدة» لتكون اللحن النهائي لذلك الخيار، وهي واحدة من روائع فاغنر بحق.

ظل تسجيل قائد الاوركسترا الالماني القديم «فورتفانغلر» في الخمسينات لهذه الاوبرا هو الاشهر بين التسجيلات العديدة. عن تسجيلات Preiser التاريخية صدر آخر يعود الى 1950قام به «كونفيتشني» مع فرقة لايبزج. وهو اول تسجيل كامل للاوبرا تؤدي دور «ايزولدة» فيه السوبرانو «مارغريت بومر» و«تريستان» التينور «لودفج سوهوس».

من التسجيلات التاريخية الاثيرة ايضا واحد لأوبرا «بارسيفال» صدر عن Philips، قدمه الالماني «كنابرتسبوش» مع فرقة «بايروث» المتخصصة بفاغنر. وهو تسجيل رائع لأوبرا لا تقل روعة عن «تريستان» واذا كان «فاغنر» قد حول الحب في «تريستان» الى ديانة، فإنه في «بارسيفال» حول الدين الى اسطورة، وعبر الاسطورة عالج موضوعة الخير والشر. كان في الاول تواقا لحب مستحيل لا يخفف الا بتلاشي الطرفين في الغناء، وفي الثاني يمتحن النفس الدامية بين جاذبي الخير والشر ثم يختار الخلاص في انكار جاذبية المادة والحواس واللذة، لصالح جاذبية التسامي وتجرد الروح. وفي كلا الحالتين، في العملين الرائعين، نجد الموسيقي ينعم بظل «شوبنهاور» الظليل. ففي هذه الاوبرا يقول فاغنر، عن طريق الموسيقى طبعا، ان معاناة الانسان في العالم لا تخفف الا بفعل مشاعر الحنو والتعاطف من قبل كائن مجرد من الانانية يرى معاناة الآخر بعمق تنعكس في داخله هو. ان وعي الانسان بالألم انما يقبل عليه من داخله، حين يرى ألمه جزءا من ألم العالم أجمع. من هذا وحده يمكن ان يقطف ثمرة الحكمة.

ابرز ادوار هذه الاوبرا اداها الباص الالماني «هانس هونز» والتسجيلات الفاغنرية العظيمة تاريخية دائما، لأن مرحلة اول القرن العشرين كانت ذهبية بالنسبة لأداء الادوار الصعبة في اوبرا فاغنر خاصة.

ان الخلوة مع اوبرا، او اوبرات، فاغنر ـ مثل الخلوة مع موسيقى بيتهوفن ـ تسمو على ارفع خلوة مع كتب الشعر والفلسفة. هذه نصيحة مجرب لكل طامع بالخلوات الجليلة.

- Wagner: Tristan and IsoIde (Preiser) - Wagner: Parsifal (Philips)