ثريا جبران.. من الوقوف على الخشبة الى الجلوس على كرسي الوزارة

عاشت مجدا مسرحيا.. ومنصبها الحكومي لم يكن موضع إجماع

TT

الممثلون المغاربة عموما، لا يتوفرون على ذلك البريق المرتبط بالشهرة والمال والنجومية التي تثير الاعجاب، بل هم في نظر جمهورهم «مساكين»، وغالبا ما ينظر اليهم بشفقة وتعاطف، كونهم من فئة الشعب، وأجورهم لا تكاد تغطي مصاريف حياتهم اليومية، سواء اشتغلوا في المسرح أو التلفزيون او السينما، وهم بدورهم يؤكدون ذلك من خلال تصريحاتهم الصحفية التي لا تخلو من الشكوى من اوضاعهم المادية، وظروف عملهم الصعبة، بالاضافة الى الاعتبارات المعنوية التي يفتقدون اليها.

ثريا جبران، واحدة من الممثلات المغربيات اللواتي يجسدن هذه النظرة الممزوجة بالشفقة والتعاطف. فباستثناء موهبتها في التمثيل المسرحي الذي دخلته منذ مطلع عقد السبعينات من القرن الماضي، لا تملك بريق النجومية، ولا الشخصية الكاريزمية، بل حتى اسمها الشخصي والعائلي خذلاها، ولم يكن ليعرف على هذا النطاق الواسع قبل تعيينها وزيرة للثقافة من طرف العاهل المغربي محمد السادس في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي. فشتان ما بين ثريا قريتيف (وليس السعدية قريتيف كما كتبت كثير من الصحف)، اسمها الحقيقي، وثريا جبران، اسمها الفني المختار بعناية.

عرف الجمهور المغربي، جبران، بمظهرها البسيط والمتواضع، من خلال ادوارها المسرحية قبل ان تنتقل الى التلفزيون والسينما. عاشت مرحلة النجاح الفني اواخر الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حيث كان الجمهور يصفق لها طويلا بعد كل اداء مسرحي ناجح، خصوصا انها اختارت ان تحمل صفة الممثلة «الملتزمة» و«المناضلة» او ببساطة «الجادة» التي تدافع عن حقوق المغلوبين، مقتربة بحذر من السياسة. لكن وبعد ان ولى زمن النضال، واصبح عبارة عن خطب غريبة، تذكر المخرجون هذه الممثلة، واسندوا لها ادوارا ثانوية، ورئيسية احيانا في مسلسلاتهم الاجتماعية والفكاهية، وافلامهم السينمائية، تفاوت اداؤها الفني فيها الى حد الاستهجان احيانا، مثل دورها في المسلسل الفكاهي «المعنى عليك يا المغمض عينيك»، الذي كان يعرض على القناة التلفزيونية المغربية الثانية «دوزيم» عندما قفز اسمها الى واجهة الاحداث بعد تعيينها وزيرة للثقافة، وهو ما دفع وزير الاعلام المغربي الى المطالبة بتوقيف بث المسلسل على اعتبارأن الأدوار الفكاهية التي تؤديها تتعارض مع منصبها الحكومي، وهو ما لم يقنع الممثلة الوزيرة ودافعت عن «شعبويتها»، بل دعت أعضاء الحكومة الى النزول من ابراجهم العاجية والاقتراب من رجل الشارع.

وترجع علاقة جبران المنتمية الى اسرة محافظة، بالمسرح الى الطفولة، اذ وهي في سن العاشرة اقترح عليها اخوها، الذي كان يدير فرقة هواة، في مدينة الدار البيضاء، المشاركة بدور صغير في احدى المسرحيات.

التقت جبران، بعدها بالمخرج الراحل فريد بن مبارك، استاذ المسرح، الذي اثنى على موهبتها، وشجعها على الاحتراف، والالتحاق بمعهد المسرح الوطني بالرباط عام 1969. كانت خلالها تمثل ضمن فرقة المسرح الجامعي، وكان المسرح في نهاية عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، يشكل مصدر قلق للانظمة السياسية العربية، حيث تعرض الكثير من المسرحيين للاعتقال بسبب آرائهم. وستنال جبران «قليلا» من تحرش، جهات يعتقد انها قريبة من السلطة بعدها بسنوات، عندما تعرضت للاختطاف على يد مجهولين، وتم حلق رأسها لمنعها من المشاركة في برنامج تلفزيوني، كانت قد دعيت للمشاركة فيه.

بعد التخرج، التحقت جبران، وهي من مواليد عام 1952، بالفرقة المسرحية الوطنية التابعة للدولة لمدة عامين (1973-1975)، بيد انها سرعان ما عادت الى مدينة الدار البيضاء، مسقط رأسها، حيث ساهمت في تأسيس عدة فرق حرة من بينها «مسرح الشعب»، و«مسرح الفرجة»، و«مسرح الفنانين المتحدين» ومثلت في أفلام ومسلسلات تلفزيونية، اكتسبت من خلالها شعبية. وكانت المسرحيات المقدمة آنذاك، تنتقد بشكل ضمني عددا من الظواهر الاجتماعية والسياسية السلبية.

وشكل العمل مع المسرحي المغربي الطيب الصديقي، مرحلة مهمة في مسار جبران المسرحي، فقد مثلت معه مسرحية «سيدي عبد الرحمن المجدوب»، و«ابو حيان التوحيدي»، ضمن «فرقة الناس»، التي قدمت عروضها في المغرب وفرنسا وتونس والجزائر.

ومن خلال فرقة الصديقي، الذي كان ممثلا ومخرجا في نفس الوقت، انضمت جبران الى فرقة الممثلين العرب، التي تأسست في الأردن، وقدمت «ألف حكاية وحكاية» و«سوق عكاظ»، وضمت مجموعة من الممثلين العرب المعروفين مثل اللبنانية نضال الاشقر. وحصلت جبران من خلال تجربتها هذه على جائزة أحسن ممثلة عربية بمهرجان بغداد عام 1985، في اوج الالتفاف الشعبي العربي حول القضية الفسلطينية. دفع النجاح والحماس، جبران، الى تأسيس فرقة جديدة بمبادرة من زوجها عبد الواحد عوزري، المؤلف والمخرج المسرحي. و«كانت تجربة مهمة شجعتها الصحافة وراهن عليها المثقفون. وكانت تجربة مسرح اليوم بمثابة ورشة هدفها اعادة الاعتبار للمسرح المغربي ورفع مستواه»، كما قالت.

قدم «مسرح اليوم» عروضا مسرحية ناجحة مثل «حكايات بلا حدود» المستمدة من نصوص نثرية للشاعر محمد الماغوط، و«نركبو الهبال» عام 1989، و«بوغابة» التي تقمصت فيه جبران دور رجل، وهو السيد «بونتيلا» عن نص «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» للمسرحي الالماني برتولد بريخت، ثم «النمرود في هوليوود». وحصلت عنها في مهرجان قرطاج 1991 على جائزة أحسن اداء نسائي، ثم مسرحية «امتا نبداو امتا» (متى نبدأ متى) و«الشمس تحتضر» عن حرب الخليج الاولى للشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، التي عرضت في المغرب وفي فرنسا وحصلت على جائزة السلام، ووسام الفنون والآداب الفرنسيين. ومسرحية «العيطة عليك»، و«امرأة غاضبة» و«الجنرال» التي عرضت عام 2000.

اما رصيدها التلفزيوني والسينمائي، والذي لم يلفت الانتباه كثيرا، فيتمثل في عدد من المسلسلات من بينها: «جنان الكرمة» لفريدة بورقية، و«خط الرجعة» لمحمد منخار، و«العين والمطفية» لشفيق السحيمي، كما كان لها نصيب من المشاركة في الاعمال الدرامية السورية التي صورت بالمغرب مثل «ملوك الطوائف» لحاتم علي.

وكان اخر اعمالها السينمائية فيلم «اركانة» لحسن غنجة، و«عود الورد» لحسن زينون، اللذان عرضا في المهرجان الوطني للسينما المنظم اخيرا في طنجة.

شاركت جبران قبل سنوات، في وصلات اعلانية ذات طبيعة توعوية، وليست تجارية: الاولى عن كيفية الوقاية من اخطار قنينات الغاز في البيوت، والثانية عن خطورة حوادث السير في الطرقات، غير انها اساءت الى صورتها، وكرست في اذهان الجمهورنموذج تلك المرأة القروية غير المتعلمة والساذجة الى حد السخرية واستصغار الذات، فالإعلان يحرق كل اسم ووجه لا يحسن التعامل معه.

امام جبران اذن الكثير لاعادة الروح للمشهد الثقافي المغربي، حيث اختزلت الثقافة، خلال السنوات الاخيرة، في مهرجانات غنائية وفلكلورية، «تزرع» زرعا في كل المدن، مصطنعة احتفالات موسمية.

تعاملت الصحافة المغربية، وحتى فئة من الرأي العام باستغراب وسخرية احيانا، مع شغل جبران لمنصب وزيرة الثقافة. فلا تاريخها المسرحي يشفع لها ذلك، ولا شعبويتها، ولا أي شيء آخر، سوى أنها خلخلت الصورة التقليدية النمطية التي يحملها الناس عن الوزراء اعتقادا منهم ان المنصب في بعده الرمزي، اكبر من ان تشغله هذه السيدة «ابنة الشعب» كما يروق لها ان تصف نفسها، والتي تختار الوانا قاتمة لملابسها، وتغطي وجهها النحيل بنظارات طبية سميكة.

وربما هي نفسها لم تصدق هذا التحول الصارخ في حياتها، من الوقوف على الخشبة الى الجلوس على كرسي الوزارة الوثير.

منذ وصولها الى منصبها الجديد، وهي تحاول اقناع منتقديها بأنها قادرة على تقديم شيء ما للثقافة في المغرب، بل حتى المثقفون انفسهم «اختفوا» اما في جلباب السلطة عبر مناصب مريحة، او داخل مؤسسات ثقافية مشلولة، ومنهم من آثر الصمت والانزواء بعيدا متفرجا.

لخصت جبران في احدى مقابلاتها الصحفية المهام الكبيرة التي تنتظرها في «مواصلة العمل الجدي في الورش الكبرى، مثل المكتبة الوطنية، ومتحف الفن المعاصر، والمعهد الوطني للموسيقى والرقص، ووضعية الفنان المغربي الاجتماعية والصحية، وتفعيل قانون الفنان، وإعداد ومنح بطاقة الفنان، وقضايا الكتاب والنشر، والتراث الثقافي الوطني المادي وغير المادي، والمواقع والآثار التاريخية، ودعم الفنون الذي يحتاج إلى تصور عام يشمل، إلى جانب المسرح فنوناً أخرى يعاني بعضها من مصاعب حقيقية مثل التشكيل والفن». وبما ان هذه المهام «الشمولية» شاقة، استعانت جبران بخبرة زوجها المسرحية، ليساعدها في تنفيذ المسؤولية الملقاة على عاتقها فعينته عضوا في ديوانها، وهو ما جلب لها انتقادات كثيرة، مع ان المقربين أولى بالمعروف، ودافعت الوزيرة عن نفسها بالقول: ان «عوزري لم يأت إلى الوزارة كزوج، وإن كان هذا في جوهره أمراً شريفاً ونبيلا، وإنما جاء لأنه يحمل شهادة دكتوراه في المسرح، وفنون الفرجة من جامعة السوربون بباريس، وهو مخرج مغربي كفء»، ومن الاجحاف والظلم، حسب رأيها، أن «نختزل فناناً وباحثاً وكادرا وطنياً فقط في دور الزوج». لا توجد وسيلة افضل من حمل الراية البيضاء في وجه الخصوم، وهذا ما فعلته جبران بقولها: «انا أحب الجميع، وأتجاوب وأتعلم واتعاون مع الجميع. وحتى عندما يساء الظن بي أو يساء إلي، فإنني أتفهم وأجد العذر للناس. إنني أراهن فقط على العمل والجدية كأحسن رد وأفضل تصرف».

ومع كل ذلك، من المؤكد ان جبران ستظل مادة إعلامية خصبة ومثيرة، تتناولها الصحف اليومية، متتبعة اخبارها ومتصيدة عثراتها زلات لسانها، كأحد وجوه الحكومة المغربية الحالية.