الرباعية الأخيرة الأسوأ في مسيرة يوسف شاهين

«هي فوضى؟».. سؤال شاهين الذي لم يعرف إجابته أحد

مشهدان من الفيلم
TT

ربما يكون التساؤل المهم الذي فرض نفسه عندما ظهرت دعاية فيلم «هي فوضى» لأول مرة هو: كيف يوافق شاهين أن يضع اسم خالد يوسف معه كمخرج للفيلم؟، وعندما شوهد الفيلم أصبح التساؤل الأهم هو: كيف لفيلم بهذا المستوى المتردي أن يعرض في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا الدولي؟.. لكن السؤال الأخطر الذي يجب أن يجد إجابته أحد هو: كيف يقبل شاهين أن يضع اسمه على هذا الفيلم من الأساس؟!.

الفيلم يشكل عالماً غريباً من جرائم قتل وانتحار، اعتقال وتعذيب، عري واغتصاب، علاقة أوديبية، قصة ثأر، قهر السلطة وفساد الجميع، نفس العالم الذي ظهرت بوادره بصورة أبسط في «الآخر»، بالإضافة إلى أجواء قصة حب بين غني وفقيرة، رقص واستعراضات، الأم الصبورة التي ستقود الثورة لاحقاً، المجزرة الجماعية في النهاية، نفس الأجواء الشاهينية القديمة في أفلام مثل «العصفور» و«عودة الابن الضال» التي تعود هنا بأكثر الطرق سذاجة وسطحية، وبمزج أشهر قصص الأفلام التي تناولت القهر والظلم والاستبداد في تاريخ السينما المصرية مثل «شيء من الخوف» و«الزوجة الثانية» و«زوجة رجل مهم»، لمناقشة قضايا الفوضى والفساد في أجهزة الشرطة والتعليم والثقافة ومجلس الشعب، تكون اتضحت المعالم الخارجية لفيلم «هي فوضى».

القصة هذه المرة عن أمين شرطة فاسد يدعى «حاتم» خالد صالح، يستبد على أهل منطقته سواء بفرض الاتاوات أو التربح بعلاقاته بأمناء شرطة آخرين، مستغلاً منصبه في جهاز الشرطة ليقوم بسجن كل مَن يحلو له بمكان خفي بقسم الشرطة، ولإظهار مدى جبروته يحب فتاة تدعى «نور» منّة شلبي، وهي لا تبادله نفس الشعور، لتعلقها بابن ناظرة مدرستها «وداد» هالة صدقي، وكيل النيابة الشريف «شريف»، الذي لن يبادلها الحب في البداية لأسباب درامية، فهو يحب فتاة لا تربطه بها أي صفات أو ميول مشتركة لتحقيق إمكانية انفصالهما المتوقعة لاحقاً، فهي فتاة بالغة الثراء والتحرر ترقص وتدخن الحشيش وتجهض ابنها، كل ذلك من أجل تحقيق علاقة الحب بين «شريف» و«نور» في ما بعد ليتحقق الصراع الدموي المنتظر بين وكيل النيابة المهم وأمين الشرطة الصغير الشأن على الفتاة الصغيرة «نور»، التي ترمز كالمعتاد إلى مصر، ويمكنك بالتأكيد ملاحظة الرمزية الطاغية لبقية الأسماء مثل «شريف» أو «بهية» «هالة فاخر» والدة «نور».

ولأن كمّ العلاقات الإنسانية كثير ومتشابك، فإن السيناريو لا يوليها اهتماما كبيرا، فكل شيء يحدث بسرعة كبيرة ومن دون منطقية كافية أو مقنعة لدوافع الشخصيات. «نور» تحب «شريف» من دون أن نعرف تطور تعلقها به، وعندما تحكي لأمها المكافحة التي تعمل على ماكينة خياطة عن حبها الميؤوس منه، يتكرر نفس المشهد بحذافيره الذي دار بين حنان ترك ولبلبة في فيلم «الآخر». هي الأخرى تحبه بجنون، فهو شبيه والده التي أحبته أيام الجامعة والمظاهرات في عهد السادات، في المقابل خطيبته تجهض الطفل وترقص رقصة طويلة لا داعي لها لمجرد ظهور «أحمد يحيى» في الفيلم، مما يفسد علاقة الحبيبين. الأغرب أن مجرد رقصة بين «نور» و«شريف» الذي أقسم في المشهد السابق أنه لا يجيد الرقص، تجعل الحب يعصف فجأة بقلبهما في مشهد شديد الافتعال!.

وإذا تجاوزنا كل تلك العلاقات الغريبة وقمنا بالتركيز على شخصيات الفيلم، سنجد أن السيناريو يقدم شخصيات لا يعرف عنها شيئاً بالفعل. «وداد» تختار لـ «نور» أثناء التسوق «جيب قصير فوق الركبة» باسم الحرية والتحرر الذي لم يعد موجوداً الآن، وهو نفس الرداء الذي أظهرت استياءها منه عندما ارتدته خطيبة ابنها، وكأننا أمام امرأة مصابة بانفصام الشخصية، كذلك فالسيناريو ظلم شخصية «حاتم» كثيراً عندما تركها تثرثر عن ماضيها في أكثر مشاهد الفيلم ابتذالاً، الجانب الإنساني المحكم الذي دائماً ما تميزت به سينما شاهين يتحول هنا إلى أضعف نقطة في بناء الفيلم.

المشكلة الأكبر أن الفيلم لا يحاول التركيز على مناقشة قضية واضحة، علماً أن الخط المتعلق بقسم الشرطة يكفي وحده لخلق دراما شديدة التفرد، فلإظهار مدى التردي التعليمي والثقافي يقوم أحد الموجهين بالمرور على حصة المعلمة «نور» في مادة اللغة الإنجليزية ليكتشف أن لا أحد من الطلاب يستطيع نطق كلمة واحدة سليمة، فيدور حوار شديد السطحية والمباشرة بين الموجه التعليمي و«نور» حول إخفاق المؤسسة التعليمية بشكل عام مما سبب ذلك المستوى الرديء. أيضاً يحاول «حاتم» صنع «حجاب محبة» ليجعل «نور» تقع في حبه، مما يدل على جهله الشديد، فيذهب إلى رجلي دين مسلم ومسيحي، محاولاً فرض سلطته عليهما، كما يقوم بتقطيع لوحة غالية الثمن يتجاوز عمرها المائة والثلاثين عاماً ويقدر سعرها بنصف مليون جنيه من أجل الفوز بخمسة آلاف جنيه، كما تقاوم ناظرة المدرسة أحد رجال الحزب الوطني أثناء وضع ملصقاته في المدرسة ليدور حوار آخر سطحي عن السلطة غير المتداولة، وتحاول «بهية» وابنتها الاستعانة بأحد مرشحي الإخوان المسلمين للتخلص من «حاتم»، فنفاجأ بتقديم نفس الصورة السطحية البعيدة عن الواقع للرجل الذي يتحدث باللغة العربية الفصحى ويعدهن بجنة الله إذا ما صوتوا من أجله، ناهيك عن الشباب الثوري المناضل الذي يحاول تنشق حواء الحرية ـ تم تنفيذ ذلك التعبير حرفياً بشكل ساذج في الفيلم ـ بل وحتى مشاهد تعرّ ورقص مطولة وغير مفيدة في سجن النساء، كل ذلك من أجل مناقشة أكبر قدر من القضايا حتى لو تسبب ذلك في الكثير من التسطيح للفيلم.

مسار الأحداث كله ينقلب رأساً على عقب فجأة في يوم شم النسيم، الذي كان من الممكن أن يحدث في عيد الميلاد أو عيد الأضحى من دون فارق يذكر، لمجرد استغلال المشاهد التسجيلية التي صورها شاهين في ذلك اليوم، مشهد الاغتصاب الذي يشكل المحور الرئيسي لنهاية الفيلم مليء بالثغرات غير المنطقية، بدءاً من طريقة إقناع «نور» للذهاب إلى «حاتم» في المطعم وعدم ذهاب صديقتها معها، ثم استدراجها كأنها طفلة في الخامسة من عمرها إلى مرسى النهر، بل وحتى إقناعها بعد محاولتها الهروب أنهم يتوجهون إلى نفس المرسى، بالرغم من أنه الجانب الآخر من النيل، واستعانة «حاتم» غير المبررة بأحد المساجين ولم يكن في حاجة فعلية له، خاصة أن قائد القارب المؤجر لن يبالي عموماً بما يحدث طالما قبض الثمن.

ثم تأتي تتابعات النهاية الساذجة لتقوم ثورة الحي كله على «حاتم» الذي اغتصب «نور» وكأنها القشة التي قصمت ظهر البعير، لتفاجأ بقيام ثورة على طريقة جلب الناس من أجل «خناقة» في حي شعبي، ويتحلى الجميع بشجاعة مفاجئة من أجل التخلص من «حاتم»، مثل رجال الدين وصاحب المطعم وتاجر اللوحات والعسكري المقهور والجيران، بل وشبرا كلها!، ناهيك عن عامل البوفيه الذي يفك لغز القضية كلها لوكيل النيابة في مشهد شديد الابتذال.

«هي فوضى» هو الجزء الرابع بعد «الآخر»، «سكوت هنصور»، و«إسكندرية نيويورك»، في رباعية شاهين الأخيرة والأسوأ في تاريخ مسيرته على الإطلاق.

[email protected]