الكندي ديفيد كورنبيرغ بعيداً عن الصورة التقليدية لعالم الجريمة

«وعود شرقية» عن مافيا روسية في لندن

TT

في الوقت الذي يبدو فيه عالم الجريمة المنظمة مألوفا ومفهوما لدى المشاهد الذي ألف تركيبته الهيكلية من خلال عائلات المافيا الإيطالية أو عصابات تجارة المخدرات المكسيكية والكولومبية والحاضرة بشكل كبير في السينما الأميركية، وأصبح بصورة أو أخرى يتفاعل مع تلك الصورة التقليدية بنوع من الانفعالات الوجدانية المتوقعة والمرتبطة مع تلك تكرار تلك التجربة الوجدانية الدرامية، إلا انه وعند الحديث عن المخرج الكندي ديفيد كورنبيرغ فإن الأمر يبدو مختلفا. فالشريط الأخير لهذا المخرج Eastern Promises «وعود شرقية»، كما هي بقية أفلامه السابقة، يعرض لنا تجربة مختلفة وجديدة عن تلك العوالم التي تقبع خلف ستائر الفضيلة والقانون.

الفيلم يدور في لندن، تلك المدينة التي تعج بجميع الأعراق والأقليات، والتي يكاد فيها الجميع محتفظا بأصالة ثقافته العرقية بل والمهنية، وفيها آنا (ناومي واتس) ممرضة تعمل في احد مستشفيات المدينة تعود أصولها إلى عائلة روسية انتقلت قبل عقود إلى لندن للبحث كما هو الحال مع بقية المهاجرين الروس عن فرص عمل جيدة وحياه سعيدة. وتظهر آنا بصورة المهاجرة التي انصهرت داخل المجتمع الجديد وقد تطبعت بكل طباع الحياة اللندنية الغربية ولم تبق لها صله بعالمها الأصيل سوى أمها وعمها الذي يتحدث الروسية ولا يزال يحمل طباعها الحادة والقاسية. وفي إحدى وردياتها في المستشفى تقوم بالمشاركة في توليد فتاة روسية سقطت مغشياً عليها في إحدى صيدليات المدينة، إلا أن الفتاة التي لا تحمل أي هوية توفيت فور ولادة الطفل. تضطر حينها آنا لترجمة مذكرات الفتاة المكتوبة بالروسية للبحث عن عائلتها، وللاستعانة بذلك وبعد رفض عمها مبدئيا ترجمتها لها اضطرت إلى الذهاب لصاحب مطعم لندني فاخر وشهير، يرأس خلف هذا الغطاء القانوني احدى اكبر وأخطر عصابات المافيا الروسية، لتأخذ الحكاية مسارا خطيرا وتدخل من خلاله آنا إلى عالم لم تكن ترغب لا هي ولا عائلتها الولوج فيه.

كورنبيرغ كثيرا ما يعتمد في أعماله على الصدمة الابتدائية التي تحدث في نفسية المشاهد صدمة تساهم في قلب وجهة نظره تجاه كل ما سيحدث بعد تلك اللحظة الفجائية. وعلى الرغم من أن الفيلم سيعود إلى الإيقاع البطيء وسيتراجع حينها التوتر المصاحب للحدث إلا أن المشاهد سيبقى في حالة أرق دائم يرفع من التوتر الانفعالي لدى المشاهد. ولنا أن نتذكر افتتاحية فيلمه السابق A History of Violence وما أحدثته من اثر لاحق على كل أحداث الفيلم. وفي هذا الفيلم نرى أن مشهد القتل الحاد على كرسي الحلاقة الذي افتتح به الفيلم ومن ثم اتباعه بالفتاة المنهكة التي تنهار أمام الصيدلي أحدثا صدمة قاسية وغير متوقعة.

كورنبيرغ، كندي الأصل، ولم يحدث أن كانت حياته قريبة من الصورة الإجرامية، ولذلك فإن التجربة التي يقدمها تختلف اختلافا جذريا عن تلك التي يقدمها كوبولا أو سكورسيزي او براين دي بالما. فلا تظهر أفلامه أي اهتمام بالتكوين الهيكلي للمنظمة أو ماهية الميكانيكية التي تمارس بها أعمالها أو العلاقة التي تربط بين أفرادها أو حتى حضورهم في داخل المجتمع، وبالتالي فإنه حينما يتحدث عن عصابة مافيا روسية هي الأكبر في لندن لا يظهر في الصورة سوى شخصيتين أو ثلاث في الوقت الذي تعج أفلام مثل «الأب الروحي ـ العراب» أو «أصدقاء طيبون» بعشرات الشخصيات. فالصراع لديه لا يولد من خلال كيفية الجريمة أو البحث في تكويناتها، وإنما يسعى إلى توليد هذه الصدمة من خلال الإخلال بالتوازن المعتاد بين علاقة العلة والمعلول في سيكولوجية الجريمة. فهو من جهة يرفع من حدة العنف إلى حدود غير منطقية في مقابل التحجيم في مبرر الجريمة إلى حد العبثية. فالجريمة لديه لا مبرر لها، وهي أصيلة بأصالة الخطيئة. وكثيرا ما يستخدم البدن في الوصول إلى هذه النتيجة، فالجسد بكافه أجزائه يكاد يكون موضع حدث لديه، وهو يتعرض إلى العنف الجسدي بنزعة تجريدية مؤلمة. وقد رسم في مشهد العراك العنيف الذي حدث بين نيكولاي (الممثل فيجو مورتنسن) داخل الحمام التركي واثنين آخرين صورة جمالية مؤلمة. لقد كانت رقصة تجريدية دموية مليئة بالعنف المجرد والرغبة الغريزية الحيوانية في البقاء. ومن جهة أخرى فهو يسعى إلى التأكيد على هذا المبدأ من خلال وحدوية العلة والسبب إلى حيث الانتفاء والعبثية، فكل ما يظهر في أفلامه من صراع هو نتاج صراح أقطاب متكافئة من حيث الثقافة والعرق، فالمخبر والضحية والمجرم كلهم مهاجرون روس ولهم ذات التاريخ العائلي والمذهبي. وهذا أيضا كان متجسداً في فيلمه السابق «تاريخ الجريمة» الذي كان الصراع صراع عائلة واحدة وعرق واحد.

في هذا العمل عاد كورتبيرغ للتعاون مع الممثل الأميركي فيجو مورنيوس بعد التعاون الناجح في فيلم «تاريخ العنف» وهو ممثل متمكن له قدرة فائقة على تأدية مثل هذا النوع من الشخصيات المزدوجة، كما انه استطاع أن يتقن مظاهر الشخصية الروسية بحركاتها وهندامها ومظهرها الخارجي، وهو الحال أيضا مع بقية طاقم العمل بمن فيهم ناومي واتس، والممثل الألماني القدير ارمين مولير الذي دائما ما يلقى حضوره على الشاشة وبصوته الرخيم بظلاله على رهبة المشهد وهيبته. [email protected]