فوزي محسون.. ظاهرة الأغنية السعودية

لم يكن «متعديا وعابر سبيل» بل علامة بارزة في التاريخ الغنائي

TT

حينما ينطفئ النهار، وتتثاءب النوارس على صواري المراكب الراسية، كانت مدينة جدة تشعل فتيل ليلها طرباً، وتتعالى في هزيع أحيائها المواويل.. ففي شقة طلال مداح الصغيرة بشارع الميناء تتجمع «شلته» الفنية التي من أبرز وجوهها الشاعر والفنان والمنتج لطفي زيني، والممثل الكبير حسن دردير، وصوت طلال العذب يعبر النوافذ بـ«وردك يا زارع الورد» و«شفت أبها في المراعي»، وغيرهما من روائعه.. ومن «روشن» عتيق بحي العلوي في وسط المدينة ربما يستوقفك عزف الملحن الكبير عمر كدرس على العود، وهو يفاجئ تلميذه الناشئ محمد عبده، الذي يراهن عليه بلحن جديد، وقد يستبد بالكدرس الطرب فيتعالى صوته الندي بأغنيته الشهيرة «يا سارية خبريني.. عما جرى خبريني».. وإذا ما يممت شطر «الكندرة»، «متعدي وعابر سبيل»، فأعلم أنك في مضارب «بني محسون»، فهناك سيد النغم فوزي محسون يتكئ واثقاً على ضفتي نهر من أعذب أنهار الكلمة: ثريا قابل وصالح جلال.. وإذا لم يتعبك السير، وواصلت البحث، فقد تلتقي هنا أو هناك بـصوت غازي علي يترنم بـ«شربة من زمزم» أو «ربوع المدينة».. وليس هذا آخر المشوار، فليل جدة لا ينتهي، وأنت تعرف أسماء كثيرة من المبدعين ، لم تصل إلى منتديات أسمارها بعد.

فلقد أسهم المناخ السيكولوجي العام لمدينة جدة في جعلها مدينة تشد إليها رحال الفنانين من مختلف مناطق السعودية، حتى غدت ـ على مدى عقود ـ بوابة الشهرة لأي فنان يحلم في تحقيق انطلاقته، وإلى هذا التجمع الفني الثري تعزى ولادة الأغنية السعودية الحديثة.. ففي وقت واحد عاش في هذه المدينة أساطين الغناء السعودي أمثال: طلال مداح، محمد عبده، غازي علي، أبو بكر بلفقيه، فوزي محسون، عبادي الجوهر، محمد عمر، علي عبد الكريم، وعبد المجيد عبد الله، جنباً إلى جنب مع كوكبة من أبرز الملحنين أمثال: عمر كدرس، سراج عمر، سامي إحسان، طاهر حسين، كما ضمت ـ في الوقت نفسه ـ نخبة من كتاب الأغنية البارزين، الذين أغرت إبداعاتهم شعراء الفصحى الكبار على المشاركة في كتابة الأغنية أمثال: عبد الله الفيصل، طاهر زمخشري، أحمد قنديل، يحيى توفيق حسن، وغيرهم..

لن أتركك تتوه في مشتل النجوم، سأتوقف وأقف بك عند مشارف ظاهرة فنية نادرة في تاريخ الغناء السعودي الحديث اسمها «فوزي محسون»، فهذا المطرب والملحن الكبير نال الكثير من الشهرة في حياته، لكن شهرته لم تزل تكبر، وتتشكل، وتتألق، رغم مرور السنوات الطويلة على الرحيل، فالذين يعشقون لونه الغنائي اليوم من الجيل الجديد على درجة كبيرة من الاتساع والتزايد بصورة لم تحدث لغيره من الراحلين، وكأن الأيام تريد أن تعوض فوزي بعض ما لم تمنحه إياه في حياته، وهذه أبرز سمات الفنان حينما يسبق عصره، فهذا الذي استقى ثقافته الفنية من مناخات المدينة ونكهة أيامها لم تنضجه الأيام على نار هادئة، فلقد أحرقت شمعة حياته من طرفيها لتذوب قبل أوان انطفاء الشموع.. هذا الفنان الكبير سقط بجدارة في الاختبار أمام اللجنة الفنية التي تضطلع بمهمة إجازة الأصوات قبل إطلاقها عبر الإذاعة، لتفتح له الإذاعة والتلفزيون أبوابهما في وقت لاحق بعد أن ذاع صيته، وعمت شهرته.. والحديث عن فوزي لا يتم بمعزل عن الشاعر صالح جلال، والشاعرة ثريا قابل، فلقد شكل هؤلاء ثلاثياً فنياً لا يمكن أن تستحضر أحدهم إلا ويتداعى إلى الذهن اسما صاحبيه الآخرين، فلقد توحدا فنياً مع حنجرة فوزي محسون إلى الدرجة التي تتطلب لجنة دولية لفض الاشتباك بين شعري صالح جلال، وثريا قابل، إذا ما حاول أحد تقسيم هذا الإرث الغنائي بينهما، وقد أخبرتني ثريا أن ثمة نصوصاً مشتركة أسهما في كتابتها معاً، ولا يضير أحدهما إذا ما نسبت إلى الآخر، وهناك من يؤكد أن فوزي نفسه كان شاعراً أيضاً.. وبالنسبة لي أجد نفسي عاجزاً حتى كتابة هذه السطور عن التمييز في الكثير من أغاني فوزي بين ما كتبته ثريا أو صالح جلال، فهذه القصائد كالتوائم المتماثلة يصعب التفريق بينها.. وكانت ظاهرة الكتابة الجماعية آنذاك مألوفة، ويورد الزميل علي فقندش عن الملحن المعروف سراج عمر قصة كتابة الأغنية الشهيرة «من فينا يا هل ترى.. باع الهوى واشترى» التي تغنى بها فوزي محسون من ألحان سراج، كما تغنى بها عبد المجيد عبد الله بعد ذلك، إذ يشير إلى أن خمسة شعراء شاركوا في كتابتها، بدأ مطلعها الشاعر الغنائي يوسف رجب فكتب:

«من فينا يا هل ترى باع الهوى واشترى وغش فيه وافترى وخان كل العهود»..

ثم أكمل النص بعد ذلك الشاعر بدر بن عبد المحسن، وفوزي محسون، وصالح جلال، ومحمد بركات.. ويبرر سراج عمر مشاركة فوزي محسون في كتابة النص بأنه صاحب ذائقة أدبية وشعرية.. وظاهرة الكتابة الجماعية للنصوص تعكس صورة الحياة الاجتماعية التي عاشها الفنانون في هذه المدينة، والتواصل الحميم الذي ساد علاقاتهم.. ولذا سأورد كوكبة من النصوص التي كتبها صالح جلال وثريا قابل، دون الخوض في نسبتها إلى أحدهما.. ومن هذه النصوص: ـ قديمك نديمك ولو الجديد أغناك ـ سبحانه وقدروا عليك ـ من بعد مزح ولعب أهو صار حبك صحيح ـ جاني الأسمر جاني ـ متعدي وعابر سبيل وجميعها تتألق بمفردتها الشعبية البسيطة التي تعبر عن الأحاسيس والمشاعر، والتي سرعان ما تنتقل لتصبح على لسان الناس، يستشهدون بها في حكاياتهم وأمثالهم..

ففي أغنية «من بعد مزح ولعب» تصوير دقيق لحالة العاشق حينما تلتقي عيناه فجأة بعيني المحبوب، وما يحدث له من تداخلات في المشاعر:

«أخجل إذا جات عيني صدفة في عينك واصير مربوك وحاير في أمري من فرحي أبغى أطير»..

وإذا تأملنا نصاً آخر تغنى به فوزي محسون «متعدي وعابر سبيل»، تجده ـ أي النص ـ تلخص أبياته صور العشق في سياقات زمن يصعب فيه البوح، وتندر فرص التواصل والاتصال: «متعدي وعابر سبيل والشوق فيه يطير مكتوب لازم أمر مكتوب لازم أسير» إلى أن يقول:

«يا شارع حبيب الروح عمالي أجي وأروح مستني منايا يطل مستني بسري أبوح» وتعامل فوزي مع تلك الكلمات لحناً بما تستحقه من الجمل الموسيقية التي تستحضر التراث بنوع من الوعي بعيداً عن الجمود والرتابة، ليشكل بذلك شخصيته الفنية المستقلة، التي طبعت مساحة كبيرة من الغناء السعودي في تلك المرحلة بلونها.

وقد كتبت ذات مقال عن سؤالي لفوزي:

> لماذا ثريا قابل؟

وتعجبه من السؤال، وهو يرد:

ـ «أين لي بشاعر يمنحني كل هذا الإحساس كما تفعل ثريا؟!».

ومعه كل الحق فليس مثل ثريا كثيرون، ويكفي أنها أول شاعرة أقامت الدنيا وأقعدتها في الإعلام السعودي حينما أصدرت في عقد الستينات من القرن الماضي ديوانها «الأوزان الباكية»، ليجد رواد الأدب السعودي أمثال الشاعر محمد حسن عواد، والأديب عبد العزيز الربيع أنفسهم على مائدة نقاشاته..

أما عن علاقة فوزي محسون بتوأمه الفني صالح جلال، فكثيراً ما صرح فوزي بأن علاقته الوثيقة بصالح جلال تسمح له باستحضار مصادر إلهام جلال الشعرية أثناء التلحين أو الأداء، وتلك خاصية على درجة من الأهمية للدخول إلى مناخات الشاعر.

وصالح جلال من ذوي المواهب المتعددة، فهو شاعر، وكاتب، ومخرج إذاعي كبير، وموسوعة متحركة من التراث، قضى حياته في عمق البيئة الشعبية في حارات جدة، ومنتدياتها، ومقاهيها، رغم مظهر «الأفندي» الذي ظل محتفظاً به، فاستمع عن قرب لأغاني «السمسمية» في حارة البحر، وموشحات «الصهبة» في مقاهي العلوي، وحكايات المدينة في «المظلوم» و«الشام»، لذا لن يجد مثله توأمة فنية تليق بقدره مع غير فوزي محسون، فكلاهما نابع من عمق المجتمع، ففوزي محسون الذي درس صغيراً في الكتاتيب، واكتفى بالشهادة الابتدائية لينخرط في الحياة العملية موظفاً بسيطاً بالبريد، لم يرضَ أن يكون ذلك نصيبه من التعليم، فعاد من جديد إلى مقاعد الدراسة عبر مدرسة ليلية اسمها الصلاح أو الإصلاح، أنشأها جميل قمصاني أحد ضباط الشرطة القدامى بحي اليمن، وتميزت بكثافة أنشطتها المسرحية والغنائية والرياضية، وهي أول من أدخل رياضة الفروسية في الأنشطة المدرسية، ووجد فوزي محسون في تلك المدرسة فرصته للتعبير عن مواهبه الفنية شاعرا وملحنا ومؤديا للكثير من أناشيدها، حتى غدا أبرز وجوه احتفالاتها وأسمارها.. ولم يكتف بالدراسة النظامية فعمل على تثقيف نفسه بقراءات منتظمة لما كان ينشره جيل الرواد السعوديين أمثال: حمزة شحاتة، محمد حسن عواد، أحمد قنديل، محمد حسن فقي، محمد درويش «الشنب»، وغيرهم، ولم يتوقف عند هذا الحد فانفتح على الكتب والمجلات العربية، والمصرية منها بصورة خاصة، وتعرف من خلال مكتبة الأصفهاني التي كانت تستورد تلك الإصدارات على أسماء أدبية شهيرة شكلت ذائقته الأدبية كأحمد شوقي، حافظ إبراهيم، علي محمود طه، بيرم التونسي، كامل الشناوي، وغيرهم، فحفظ الكثير من قصائدهم وحكاياتهم، وكان يتغنى في جلساته الخاصة جداً بإحدى قصائد بيرم التونسي، ويشرح للحضور معانيها وغاياتها، ويفيض في وصف خفة دم صاحبها وظرفه.. وفي إحدى الحفلات الخاصة بالقفص الذهبي في جدة لصاحبه محمد مكي مكوار صديق الفنانين والإعلاميين، كان فوزي محسون في قمة تأثره، وهو يؤدي أغنيته الشهيرة:

«سبحانه وقدروا عليك وخلوك تنسى أحبابك ولا تسأل علينا خلاص قفلت في وجهنا بابك ولا عاد زلة أو طلة يحق لكم لنا الله» وحينما انتهى من أدائها، سألته مداعبا:

> ما سر انفعالك بهذه الأغنية التي تستجدي الحبيب الهاجر الذي نسي أحبابه، وأغلق في وجوههم أبوابه؟.. أين كبرياء العاشق؟!.. فنظر إلي مليا وقال:

ـ نحن على نهج عمنا أحمد رامي..

ثم راح يتغنى ببيت من أغنية كتبها رامي لأم كلثوم:

«عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك».

لاكتشف بعد سنوات طويلة، وبعد قراءة مكثفة لشعر أحمد رامي ما ألمح إليه فوزي «المثقف» في تلك الليلة البعيدة، فمذهب رامي في الحب يتسم بالاستسلام إلى حد التلذذ بعذاباته، فهو أبعد ما يكون عن الكبرياء في الحب، وجل قصائده الغنائية تستجدي عطف الحبيب.

وفوزي محسون من ظرفاء عصره، وله مع زملائه الفنانين عشرات النوادر، أجملها ما كان يحدث له مع صديقه طلال مداح، الذي روى لي حكايته مع سيارة فوزي العتيقة التي تتطلب قيادتها أن يركب معه شخص آخر لكي يسند كرسي السائق برجليه من الخلف، وفي نهاية إحدى السهرات في مدينة الطائف تسلم القيادة طلال مداح في طريق العودة إلى جدة، واكتفى فوزي بإسناد المقعد من الخلف، ولكن غلبه النوم فخارت قدماه عن إسناد المقعد، واستيقظ ليجد طلال قد سقط بجواره في المقعد الخلفي، والسيارة تهرول خارج خط الإسفلت قبل أن تغرس عجلاتها في الرمال.

وهو صاحب القلب الكبير في شارع الفن، يعلو بالتسامح عن الإساءة، ويرتقي بمكارم العفو عن الضغينة.. يتخذ لنفسه دائماً موقعاً وسطاً بين الأطراف المتنازعة، حتى غدا يشكل العنصر المشترك في كل الصداقات داخل الوسط الفني.. علاقاته بالصحافة ظلت على الدوام عفوية، لم يقترب منها ولم تنأى عنه، فهو لم يسع للحضور قط خارج فنه، لا يأبه كثيراً لعواصف المدح والقدح، زاهد في الشهرة رغم ملاحقتها له، وهو على هذا النحو أشبه ما يكون بالروائي الأميركي «جون شتاينبك» الذي كان يردد على مسامع الصحافيين الذين يلاحقونه: «أرجوكم أن تشعروا بمطلق الحرية في أن تخترعوا ما يحلو لكم من المعلومات عني وفقاً لما تحتاجونه»، فكان ينأى بنفسه بعيداً عن دوائر الضوء التي يسعى إليها الآخرون.. والمرة الوحيدة التي شاهدت فيها فوزي داخل إحدى المؤسسات الصحافية جاء فيها زائراً لزميلنا الصحافي الفني الكبير جلال أبو زيد ـ يرحمه الله ـ بصحيفة المدينة ليرافقه إلى مقر حفل تعهد جلال بإيصاله إليه، وما زلت أذكر يومها كيف انشغل فوزي عن الحفاوة التي حظي بها من المحررين ليتعرف على خطوات إعداد الصحيفة، وكيفية إخراجها، والتقنيات الحديثة في صناعتها، حتى خيل للبعض أن فوزي سيهجر الفن إلى عالم الصحافة، ولكنه التوق إلى المعرفة الشاملة الذي كان يميز فوزي عن الكثيرين. وباختصار يمكن القول: إن فوزي فنان لا يشبه إلا نفسه، فهو صاحب شخصية فنية مستقلة، لا تحتاج معها الإذاعات إلى ذكر اسمه مرادفاً للحن أو أغنية، فكل ما في فنه يشي باسمه، وحينما قيل لي ذات مرة:

ـ إن فلاناً سرق لحناً لفوزي محسون..

فقلت على الفور: > وكيف سوف يخفيه؟! ففوزي علامة فنية مسجلة يصعب سرقتها أو إخفاؤها..

فهو لم يكن «متعديا وعابر سبيل»، ولم يكن فنانا عابرا في زمن عابر، وإنما كان ـ ولا يزال ـ عنوانا بارزا وكبيرا في مسيرة تاريخنا الفني.