مزاوجة ناجحة بين الحكاية والصورة.. لكن أين المجتمع السعودي؟

أطفال موظفي شركة أرامكو السعودية في فيلم وثائقي أميركي

مشهدان من الفيلم («الشرق الاوسط»)
TT

في ليلة شتوية باردة، وفي أحد تلك العروض الخجولة التي بدأت العاصمة الرياض تشهدها بين حين وآخر، والتي لا تعدو أن تكون مصاحبة لحدث ما أو مناسبة خاصة، أقيم في القاعة الكبرى لمركز الملك فيصل للدراسات والأبحاث الإسلامية يوم الثلاثاء الماضي عرض للفيلم الوثائقي Brat’s Story Home: The Aramco «الوطن: قصة أطفال ارامكو» لمخرجيه الشابين الأميركيين ماثيو ميلر وتود نايمز. ويظهر من العنوان كيف أن هؤلاء الأطفال الذين ينتمي إليهم صناع الفيلم ويشاركون بأنفسهم في بعض لقاءاته لديهم ارتباط عاطفي وعميق مع هذا المكان الذي أطلق عليه تجاوزا «الوطن». هذا الوطن الذي تم الحديث عنه ليس ضاحية أو مقاطعة أو بلدة أميركية، وإنما يقصد المكان الذي ألفوه منذ الصغر. إنها السعودية التي أشاروا إليها في أكثر من لقاء بأنها موطنهم الفعلي رغم كونهم أميركيي الأصل، وهذا بحد ذاته يثير شغف الفضول لدى الجميع بما فيهم السعوديون أنفسهم. ففي الوقت الذي يشار فيه إلى السعودية في وسائل الإعلام الغربية بأنها احد منابع الإرهاب، وتفيد بعض تقارير الجمعيات الأممية والدولية الأخرى بأن الأمن والفساد وحقوق الإنسان وصلت إلى مستويات متدنية في هذا البلد، يأتي مواطن أميركي تسانده مجموعة كبيرة من الأميركيين ليقولوا عكس ذلك. السعودية هي وطنهم الذي لا يحملون جنسيته. وما يتناقله الإعلام الغربي هو بالنسبة لهم مجرد دعاية مغرضة، وتشويه لما يرون أنه البلد الذي قضوا فيه أجمل سني حياتهم. هذا الفيلم ما هو إلا محاولة لكسر هذا الجفاء والبحث عن صيغة ودية لتقارب الحضارات، وهي رسالة سامية ولا شك في ذلك. إلا أن كل هذه الإثارة المسبقة ما تلبث أن تتهاوى مع تتابع دقائق الفيلم الذي تتشتت أفكاره بعد أن حاول أن يبني لها قاعدة متينة في البداية.

الفيلم يحكي حكاية أطفال موظفي شركة ارامكو السعودية الذين ولدوا وعاشوا معظم سنواتهم في السعودية برفقة آبائهم الذين قدموا إلى المملكة مع أول اكتشافات النفط، ونشأوا في ظل هذه العلاقة الاقتصادية المتينة التي ربطت بين المملكة وأميركا. وهو ينظم أحداثه في تقسيمة منطقية متتابعة تمزج بذكاء بين نسقين بصورة متوازية احدهما نسق تاريخي والآخر اجتماعي، أي انه يربط تقادم الحدث التاريخي الذي بدأ منتصف القرن الماضي بالتطور الفردي داخل المجتمع، ففصوله كانت تتبع في عناوينها الأنماط الاجتماعية وتطور الفرد إلا أنها أيضا تمثل ودون الإشارة المباشرة إلى ذلك حقبة زمنية وتاريخية معينة.

يبدأ الفيلم أول فصوله راجعا خمسين سنة إلى الوراء حيث بدايات ارامكو التي استهلها بنبذة سريعة حول المملكة تشابه تلك النبذة التي استهل بها فيلم «المملكة» The Kingdome افتتاحيته مع فارق كبير في التوجه والهدف لكل منهما. ويتحقق في هذه الجزئية من الفيلم أفضل فصوله على الرغم من صعوبة الحصول على صور أرشيفية جيدة لحقبة كان التوثيق المرئي فيها غائبا بشكل كبير، إلا انه تم التعامل معها بفنية عالية وشاعرية لطيفة. واستطاع تود وميلر أن يصنعا من صور فوتوغرافية ثابتة حكايات مليئة بالحياة والتاريخ والثقافة. لقد مزج الفيلم في هذا الجزء كما هو في بقية الأجزاء بين الحكاية المروية والصورة المرئية بدقة متميزة. فقد انصب اهتمامه كثيرا على الربط فيما بين الرواية والصورة بدقائق وتفاصيل الصورة وليس بعموميتها، وهذا ما دعاه إلى الاستعانة برسوم تشكيلية صممت خصيصا لتتناسب مع إحدى حكاياته، هذا بالإضافة إلى الإيحاء الأسطوري والفنتازي الذي أراد أن يضفيه على تلك الحكاية بالتحديد. ويمكننا القول انه بنهاية هذا الفصل انتهى الفيلم بأبعاده الكبرى، وإسقاطاته الفكرية والتاريخية، وكذلك الاجتماعية المتميزة، ليكمل ما تبقى من أحداثه ضمن حدود لا تعدو أن تكون مجرد ذكريات شخصياته الخاصة.

المجتمع الذي كان يعيشه الأميركيون في أرامكو كان مجتمعا منعزلا بشكل كبير عن بقية المجتمع السعودي، وكان لذلك تأثير سلبي على رؤية المخرج نفسه لهذا المجتمع الذي كان يظنه جزءاً لا يتجزأ من المجتمع السعودي، وهذه قد تكون رؤية مغلوطة لدى المخرج نفسه باعتباره نتاج ذلك المجتمع. والواقع أن تلك المجمعات كانت تعيش ثقافتها الأميركية الغربية بدون أن يكون بينها وبين الثقافة السعودية أي اتصال أو تلاقح، ولذلك فقد الفيلم خيوطه التي امسك بها في فصوله الأولى، ويختفي حينها المجتمع السعودي تماما لأكثر من نصف أحداث الفيلم. وما كانت شخصيات الشريط تشير إليه بأنها أحداث لا تنسى لم تكن تلك الأحداث والممارسات لتشيع خارج ذلك المجتمع الصغير التي تعيش فيه، فالمجتمع السعودي لا يحتفل مطلقا برأس السنة الميلادية ولا بالكريسماس ولا توجد لديه دور سينما ولا أكاديميات للموسيقى والرقص، ولا تقام في شوارعه تلك الكرنفالات الراقصة، والذي يرفض بحكم عاداته والتقاليد الاجتماعية كل أنماط الثقافة الغربية التي ذكرها الفيلم. فأين المجتمع السعودي من بين كل ذلك؟ وقد افترض احد حضور المؤتمر الصحافي بأنه بإزالة بعض صور الجمال في الفيلم فلن يتردد احد في الإشارة إلى أن هذا الفيلم مصور في إحدى البلدات النموذجية الأميركية.

لقد سعى الفيلم لتحقيق ما أشار إليه احد شخصياته بأن ذلك المجتمع كان اليوتوبيا الحالمة في نظرها. وهذا السعي المتواصل من قبل صناع الفيلم لإلباسه صورة مثالية هي ما انتزع من الفيلم التوتر اللازم لإحداث إيقاع تتفاوت فيه مستوياته الإثارة الإنفعالية. فقد ابتدأ الفيلم أحداثه بعاطفة رومانسية مؤثرة واستمر هذا السيل العاطفي بنفس المستوى الانفعالي مما أدى إلى رتابة في الحدث وتراجع مطرد في مردوده العاطفي.

إن محاولة إيصال صورة ايجابية عن المجتمع السعودي بهذه الصورة الإحتفائية المثالية سيعود بنتائج عكسية، كون المجتمع السعودي مجتمعا حقيقيا يعاني من العديد من المشكلات الاجتماعية والثقافية التي تلقي بثقلها على ثقافة الفرد وعطائه الاجتماعي، وإن دحض أي فكرة مغلوطة تقوم بالدرجة الأولى على تبيين المشاكل الحقيقية وليس إخفائها وتزييفها. وكما قيل «رحم الله امرءاً أهدى إلى عيوبي».

[email protected]