طارق عبد الحكيم.. بائع الخضروات الذي رأس المجمع العربي للموسيقى

أول من أخرج الأغنية السعودية من دائرة المحلية إلى آفاق العربية

الموسيقار طارق عبد الحكيم («الشرق الاوسط»)
TT

كانت مدينة الطائف تتوسد أحلامنا، فتنأى كلما اقتربنا منها كفتاة تمارس البغدَدة على عشاقها، والطريق إليها يتلوى كخصر راقصة أشعلتها مواجع الطبول.. سيارتنا العتيقة التي كان يطلق عليها محلياً اسم «الأبلكاش»، تثير خلفها النقع، وهي تتمخطر في الطريق بين «اليمانية» و«السيل الكبير» و«السيل الصغير»، وسائقها يدير أغنية لطارق عبد الحكيم:

«حبيبي في روابي شهار ما بين الوج والمثناة»..

فتصب علينا دلال الوقت نكهة الطائف المأنوس ممزوجة بصوت فناننا الكبير طارق عبد الحكيم، فهو من معالم تلك المدينة، مثله مثل «ورودها» و«مجرورها» وبهجة عصاري أيامها.. حينما وصلنا إلى الطائف بعد تمنع، كان فجر المدينة بدأ يطرد قطعان العتمة من الدروب، ويغسل الدور من بقايا الغسق، فتمطر النوافذ بزقزقة «النغاري» وهديل الحمام.. ومن تلك الشرفة النائية في ذلك النزل العتيق رحنا ننادم المدينة، وصباح الكادحين يصفع بأقدامه الدروب، فتنبت فيها الخطى، وتتعالى نداءات الباعة في الأسواق:

ـ «يا شناوي يا نبات.. واللي زرعك طق ومات».

المعذرة.. فأنا اعتصر الذاكرة الآن لأنقل لكم صورة عمرها يقترب من خمسة عقود، فذلك الصباح بعيد جداً، ينتمي إلى يوم من أيام صيف عام 1961، والعتب على الذاكرة إن أغفلت بعض التفاصيل الحميمة عن مقهى بور سعيد لعمنا عربي مغربي يرحمه الله، حينما كانت تتعالى من «مراكيزه» موشحات «الصهبة» و«اليماني»، وعن «برحة ابن العباس» بحوانيتها وإيقاعات دروبها، وساحة نجمة بأنسها وناسها.. فالذكريات البعيدة تومض ـ كالكواكب ـ حيناً، وتخبو أحياناً.. في ذلك الصباح البعيد رحنا صغاراً نسجل أسماءنا في دفاتر عشق تلك المدينة، ونجمع قروشنا القليلة لنستأجر سيارة تقلنا من «برحة القزاز» إلى مقهى شهار لنشاهد الفنان طارق عبد الحكيم كمعلم من معالم الطائف.. كان يجلس في صدر ذلك المقهى وسط كوكبة من أصدقائه الفنانين، ولم نكن نمتلك الجرأة أطفالاً لدخول ذلك المقهى، فاكتفينا بالنظر إلى طارق من خارج أسوار المقهى، ثم رحنا عقب عودتنا إلى جدة نتحدث لأصدقائنا عن رؤية طارق عبد الحكيم، بعد أن أضفنا إلى الحكاية الكثير من «الرتوش» لزوم القص والتشويق، فجعلنا من تلك الرؤية البعيدة جلسة فنية غنى خلالها طارق عبد الحكيم أغنيته الشهيرة:

«يا ريم وادي ثقيف لطيف شكلك لطيف» فكانت تثير تلك الحكايات ـ نصف الواقعية ـ غيرة أندادنا، فيغبطوننا أو يحسدوننا على رؤية ذلك الفنان الكبير الذي ملأت شهرته الآفاق، إذ كان الوحيد ـ حتى ذلك التاريخ ـ الذي يتربع على عرش الفن بلا منازع.

* طارق وريادة الفن السعودي

* ومدينة الطائف حتى عهد قريب كانت عاصمة الفن السعودي، في بساتينها صيفاً يتجمع نخبة الفنانين الرواد أمثال: اللبني، حسن جاوه، عثمان خميس، الكردوس، سعيد أبوخشبة، الزقزوق، حسين هاشم، وعبد الرحمن مؤذن، وغيرهم، ومن هؤلاء وعنهم تسلم طارق عبد الحكيم زمام الأغنية السعودية، ليحدث أكبر نقلة في تاريخها، حتى ليمكن القول إنه الأب الروحي للأغنية السعودية الحديثة، فهو الذي أخرجها من دوائرها التقليدية والمحلية إلى آفاق عربية أكثر رحابة واتساعاً، قبل أن يتسلمها منه بعد ذلك طلال مداح، ومحمد عبده ليحققا بها أكبر مساحات الانتشار.. ويمكن القول إن مساحة الريادة في تاريخ الموسيقار طارق عبد الحكيم لا تضاهيها أية مساحة أخرى لدى أي فنان آخر هنا، فهو ليس عميد الأغنية السعودية فحسب، بل هو عمدتها وعمادها وعامود خيمتها.

وحينما يؤرخ للغناء السعودي، فإن طارق عبد الحكيم سيمثل العمود الفقري لهذا التاريخ، فهو رئيس المجمع الموسيقي العربي، وصاحب الإسهامات الرائدة في تأسيس الفرق الموسيقية، وأول مبتعث سعودي إلى معهد الموسيقى العربية بمصر في وقت مبكر من عقد الخمسينات من القرن الماضي، وأول من أخرج الأغنية السعودية إلى النطاق العربي، فغنى من ألحانه كوكبة من المطربين والمطربات العرب أمثال: نجاح سلام، فائزة أحمد، محمد قنديل، كارم محمود، سميرة توفيق، وديع الصافي، وغيرهم..

* مفاجأة طلال مداح

* وظل طارق على مدى عقود يتفرد بقمة الهرم الفني في السعودية، حتى استيقظ ذات صباح على صوت ندي نقي عذب، يأتي من خارج عباءته الفنية ليحصد بأغنية واحدة، هي «وردك يا زارع الورد» شهرة سريعة لم تتحقق لأحد على هذا النحو من قبل، وكان صاحب ذلك الصوت الذي فاجأ طارق عبد الحكيم هو الفنان طلال مداح.. لذا يمكن القول: إن أولى المنافسات الفنية الرئيسية في تاريخ الغناء السعودي حدثت بين طلال مداح وطارق عبد الحكيم..

ويصف طلال تلك الفترة فيقول: «لم يكن يشغلني في تلك البدايات سوى طارق عبد الحكيم، ففي كل مكان أذهب إليه أجد الناس يتحدثون عن عبد الحكيم، حتى في البيت الذي أسكنه كانت أغنيته «يا ريم وادي ثقيف»، تحمل صوته إلى غرفتي من مجلس الضيوف».

ويعترف قائلاً: «لم يكن من السهل في زمن طارق عبد الحكيم أن تتسع ذائقة الناس لقادم جديد لا يرتدي عباءة طارق عبد الحكيم الفنية». وكان طلال يستعد لهذه المنافسة، ويحاول أن يستقطب إلى صفه الفنان عبد الله محمد ـ الذي ارتبط ولاؤه لفترة بأستاذه طارق ـ ليشكل معه فريقاً واحداً في مواجهة طارق عبد الحكيم في أفراح الطائف، التي كانت الميدان الأبرز للمنافسة.. ويقول طلال بصراحته المعهودة: «لم تكن تخلو تلك المنافسة في البداية من حماسة الشباب، حتى إنني كنت أرصد أماكن الأفراح التي يذهب طارق لإحيائها في مدينة الطائف، فأذهب إلى أقرب فرح منها لأغني مجاناً بغية الانتشار، واستقطاب بعض الجمهور، الذي سيطر عليه طارق عبد الحكيم بفنه الجميل لفترة طويلة من الزمن».

ويبتسم طلال مداح، وهو يستطرد قائلاً: «لكنها فترة قصيرة جداً لم تطل، انتقلت بعدها إلى مدينة جدة، التي غدت البوابة الأكثر اتساعاً لتحقيق الشهرة لأي فنان».

وفي تقديري أن طارق عبد الحكيم لم يشغل نفسه كثيراً بتلك المنافسة لعوامل عدة منها:

ـ ارتباطاته الوظيفية حتى تلك اللحظة كضابط في الجيش السعودي يحتل رتبة رفيعة.

ـ تشبعه بالشهرة التي انفرد بها على مدى عقود.

ـ ريادته الفنية التي تفرض عليه تشجيع المواهب الجديدة بدلاً من الدخول في منافستها. وهكذا لم تكن المنافسة من جانب طارق عبد الحكيم تحتل نفس القدر من الانشغال الذي كان لدى طلال مداح، ولطلال الشاب الذي يتقد حماسة آنذاك أسبابه المنطقية، إذ كان يبحث لنفسه عن مكان في مواجهة الهرم الأكبر للأغنية السعودية.

* طارق الإنسان

* وطارق عبد الحكيم الإنسان لا يقل جمالاً عن طارق عبد الحكيم الفنان، فهذا المولود في عام 1920، الذي بدأ حياته بائعاً للخضراوات في حلقة الطائف، ظل يحتفظ ببساطته طوال رحلة حياته، التي حقق خلالها أعظم الأمجاد الفنية والوظيفية.. وهو منذ انتقاله إلى مدينة جدة قبل سنوات، تجده يحمل كل ليلة سنوات عمره التي تقترب من التسعين ليتواصل مع الأصدقاء، يلبي دعواتهم، ويؤنس أفراحهم، ويطرز بالبهجة أسمارهم.. وفي كل مرة تجمعني به المناسبات أجد طارق ـ كما عهدته ـ طفولي القلب، دافئ المشاعر، عفيف اللسان..

قبل نحو ثلاث سنوات تشرفت بصحبته أياماً في العاصمة اليمنية صنعاء، وبينما كنت أسير في سوق الملح بصنعاء القديمة، راح بائع اللوز اليمني العجوز يخفض من صوت مذياعه العتيق الذي كان يسكب أغنية يمنية قديمة يقول مطلعها:

«بالله عليك يالموزع..

شيء معانا بريد يو بريد من عند خلي..

والعوازل شهود يو» ليسألني عن طارق عبد الحكيم بعد أن عرف أنه في اليمن، وحينما أخبرته باسم الفندق الذي ننزل به، قفز العجوز على الفور من مقعده، وأغلق باب رزقه، وراح يبحث عن طارق عبد الحكيم.. وحينما عدت من الفندق بعد ساعات كان العجوز اليمني إلى جوار طارق عبد الحكيم في بهو الفندق يبكيان ويضحكان معاً، وهما يتبادلان ذكريات عتيقة عن أيام خلت جمعتهما خلالها مدينة الطائف لسنوات.. وحينما انصرف اليمني العجوز سألت طارق عن الرجل، فقال: «إنه أحد عمال المقهى الذي كنا نقضي فيه أمسياتنا في الطائف».

فذاكرة وقلب وعواطف هذا الفنان الكبير تتسع حباً لكل الناس حتى عامل المقهى البسيط.. وظل ذلك العامل منذ ذلك اللقاء ضيفاً مرحباً به من قبل طارق في كل أمسياتنا الخاصة التي كنا نتحلق فيها حول طارق عبد الحكيم، وتلميذه الفنان الخلوق حسن عبد الله في إحدى صالات «شيراتون» صنعاء، لنقضي الليل مع أغنيات طارق المعتقة مثل: يا ناعس الجفن، روابي شهار، أهيم بروحي إلى المروتين، يا ريم وادي ثقيف، لك عرش وسط العين، أسمر عبر، تعداني وما سلم، أسمر سمير الروح، أشقر وشعره ذهب، أبكي على ما جرالي يا هلي.

وكانت سهراتنا الخاصة تلك تضم بعضاً من الأدباء والكتّاب والإعلاميين اليمنيين، الذين أعجبوا بثقافة طارق عبد الحكيم الموسوعية، خاصة ما يتصل منها بالغناء اليمني ورواده أمثال: إبراهيم الماس، يحيى عمر، جمعة خان، الجميعي، القعطبي، وغيرهم، حتى إن مثقفاً يمنياً قال لي بعد نهاية إحدى السهرات: «هذا الرجل منجم الماس، فضعوه في مقدمة ثرواتكم».

* متحف الذكريات

* حينما حاولت أمانة مدينة جدة في نهاية عام 2005، إغلاق متحفه الذي يضم مجموعة من المقتنيات التراثية والقطع الأثرية والآلات الموسيقية، بحجة عدم وجود ترخيص، كتبت في هذه الصحيفة بتاريخ 22 ديسمبر (كانون الأول) 2005 مقالاً بعنوان: «يا أمانة جدة.. ليت الذي حدث لم يحدث»، فجاءني في صباح ذلك اليوم صوته شامخاً عبر الهاتف يقول: «يكفيني وسط هذا النكران من بعض موظفي الأمانة، أن الكثيرين في الوطن يدركون أن إغلاق متحف يعني إغلاق نافذة من نوافذ الضوء».. ثم راح يردد بيتاً شهيراً من الشعر:

«سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء» التقيت به بعد ذلك فوجدته شامخاً كذرى جبال مدينته الطائف، صلباً كضابط مدفعية ثقيلة، فتياً كشاب في العشرين من العمر، متفتحاً للحياة كوردة من ورود بساتين صباه في «المثناة»، تمر السنين عليه فيزداد عبقاً كمسك معتق.. يومها طلبت أن أسمع منه «المروتين» لشاعر مكة الكبير طاهر زمخشري، فانطلق صوته بكل وقار السنين يغني:

«أهيم بروحي على الرابية وعند المطاف وفي المروتين وأهفو إلى ذكر غالية لدى البيت والخيف والأخشبين فيهدر دمعي بآماقيه ويجري لظاه على الوجنتين ويصرخ شوقي بأعماقيه فأرسل من مقلتي دمعتين»

* نخلة في «العلالي»

* فإن كان لكل دولة من الدول قامتها الفنية السامقة، كأن يكون لمصر محمد عبد الوهاب، وللبنان وديع الصافي، وللعراق ناظم الغزالي، ولسورية صباح فخري، فإن قامة السعودية الفنية الشاهقة هو طارق عبد الحكيم، فهو الأب الروحي للأغنية السعودية، بألحانه حلقت في سماء العرب، وبشجن صوته سافرت إلى وجداننا.

فقر نفساً يا أعلى نخيل البلاد.. كل القامات الفنية مهما علت تظل ضمن فيء ظلالك.