الفنان عبد الله محمد.. ساري الليل الباحث عن جراحه

حينما يداهمه الإلهام يطرق بأصابعه على علبة الثقاب ليصنع ألحاناً خالدة

من اليمين: سعود سالم وعمر كردس ومحمد عبده وعبد الله محمد وسراج عمر
TT

أتوقف كثيراً عند النظرية التي ترى أن الفن مصدره الإلهام، وأتذكر دائماً ما يروى عن «فولتير»، وكيف أنه جلس مرة في إحدى مقصورات المسرح يشاهد تمثيل رواية من رواياته ليصيح متعجباً:

ـ «أحقاً أنا الذي كتبت ذلك!».

وما ذكر أيضاً عن الموسيقار «شوبان» من أن الإبداع الفني عنده كان تلقائياً سحرياً يرد عليه من دون أن يتوقعه..

وما يقال عن الموسيقي «سترافنسكي» بأن كل ما كان يتذكر فعله عندما يعزف هي تلك اللحظات الأولى التي يضع فيها أنامله على آلة الموسيقى»..

وما يعترف به الموسيقي الإيطالي «جيواشينو» أن لا علاقة لعقله الواعي بإبداعه، فما ينتجه هو من نتاج عقل آخر لا يعرف عنه شيئاً..

وتتداعى في سياقات هؤلاء إلى الذهن صورة الفنان السعودي الكبير الراحل عبد الله محمد، الفنان الذي كان يداهمه الإلهام، فيطرق بأصابعه على علبة أعواد الثقاب ليصنع بذلك ألحاناً خالدة مثل:

ـ إيه ذنبي إيه بس يا أسمر ـ يا ساري الليل تبحث عن جراحه ـ يا اللي أسراري معاك صدق وحقيقة ـ حيران وليّا سنة فهذا الرجل البسيط والعفوي والبوهيمي يتحول في لحظة الإلهام إلى كائن مسكون بقوة سحرية، فينبثق في دواخله الإبداع انبثاقاً فجائياً، وكأن قوة خفية تستولي عليه، وتفرض عليه الإنصات المرهف إلى دواخله ليستمد منها روائعه الفنية، التي يصفها فنان العرب محمد عبده بأنها طبعت مرحلة مهمة من مراحل الغناء السعودي بطابعها.. ويشير الملحن عمر كدرس إلى خاصية من خواص عبد الله محمد الفنية، ويقول:

ـ «من الصعب تجاوزه على المسرح إذا سلطن، وأسلم الحضور له الزمام»..

ويضيف قائلاً: «إن عبد الله محمد البسيط يتحول إلى غول حينما يصعد على خشبة المسرح، فهو ينسى نفسه، وينصهر مع الجمهور لدرجة التوحد».

حينما غنى مبكراً «دويتو« مع الفنانة اللبنانية نزهة يونس بعنوان: «الحب وانت وأنا»، أصابت الدهشة نزهة يونس حينما طوتها خامة صوت عبد الله محمد في جناحها، فصاحت على مهندس التسجيل قائلة: «دخلك خبرني.. هل لصوتي وجود بجوار صوته؟!».

ولهذه الأسباب تجنب الفنانون الأذكياء أن يغنوا بعد عبد الله محمد مباشرة، فلصوته صدى يواصل التطريب في دواخل مستمعيه حتى بعد أن يكون قد غادر المسرح، وكان طلال مداح في الحفلات الخاصة يقول مازحاً: «ضعوا بيني وبين عبد الله محمد استراحة طويلة!». ويعترف محمد عبده ـ بأن أول هزيمة فنية تلقاها في بداياته كانت على يد عبد الله محمد، حينما اشترك معه في مسرح الإذاعة بجدة، ليغني محمد يومها قصيدة طويلة، لم يتفاعل معها الجمهور، فيصعد بعده إلى المسرح عبد الله محمد بأدائه الحماسي، وصوته القوي، فيشعل القاعة طرباً وحيوية وتفاعلاً..

* ليلة عبد الله محمد

* أول مرة التقيت به كانت في حي «الهنداوية» الشعبي جنوب جدة، في ليلة يطلق عليها أهالي الحي «ليلة عبد الله محمد»، فلقد قدم ليلتها من الطائف إلى جدة لإحياء حفل زفاف أحد الأثرياء، وفي طريقه إلى الحفل مر بذلك الحي فوجد عرساً متواضعاً لأحد فقراء الحي، فصعد على منصة الغناء، وراح يغني:

«طل القمر ما أحلاه نورني يا غالي ساهر أنا واياه أشكي له عن حالي» ليتحول ذلك الفرح المتواضع في لحظة إلى فرح جماهيري، تألق فيه عبد الله محمد، وتفاعل معه سكان ذلك الحي الشعبي رقصاً وتشجيعاً.. وحينما جاء صاحب الفرح الآخر الذي تعاقد معه عبد الله محمد ليصطحبه إلى حيث عرسه، رفض عبد الله محمد الانتقال معه، ومغادرة الجمهور الذي أحبه، وعندما أصر الرجل على استرجاع مقدم العقد «العربون» الذي دفعه لعبد الله محمد قبل أن يغادر، كشر فتوات ذلك الحي الملتهب عن أنيابهم، فهرب الرجل مؤثراً السلامة في ليلة عرسه، وظل عبد الله محمد يغني لهم مجاناً حتى الضحى من صباح اليوم التالي، ولم ينزل عن خشبة المسرح إلا حينما استنكر رجال الحسبة أن تمتد تلك السهرة الصاخبة إلى ساعات النهار، لينتهي ذلك الاحتفال باصطحاب العريس وعبد الله محمد إلى مخفر الحي!!

* مرهون في ثياب الخيام

* حينما أقمت فترة من حياتي في مدينة الطائف في عقد السبعينات من القرن الماضي توثقت معرفتي بعبد الله محمد، وغدوت التقي به وفقاً لمزاجيته، فهو ينقطع عنك حتى لتظن أنك لن تراه قط، وقد يقبل عليك حتى لتتخيل أنه لن يغادرك أبداً.. ولما كانت علاقته بالزمن مقطوعة، فإن باب بيت «العزوبية» الذي كنت أقيم فيه يظل مفتوحاً لاستقبال عبد الله محمد في أية ساعة من ساعات الليل أو النهار، وما أكثر الليالي التي كنا نستيقظ فيها على صوت عبد الله محمد على رؤوسنا يقلد صوت سيد مكاوي، حينما كان يلعب دور المسحراتي خلال شهر رمضان في الإذاعة المصرية:

ـ «اصحى يا نايم وحد الدايم».

ولم يكن ليغادر قبل أن يوقظ الجميع، لنكمل معه سهرة نعلم متى تبدأ، لكن الله وحده يعلم متى تنتهي..

فأجمل ما في ذلك الفنان بساطته، وأعذب ما يجذبك إليه بوهيميته، وأنقى ما يتصف به صدقه.. ويكفي أن يطمئن إليك ليقص عليك حكايته من المهد إلى تخوم اللحد، فالرجل يحمل قلبه على كتفه ليمنح كل الوجوه التي تعترض طريقه حباً، وكأنه هو مبدع ذلك البيت لإيليا أبو ماضي:

ـ «كن وردة طيبها حتى لسارقها ... لا دمنة خبثها حتى لساقيها» سألته مرة:

ـ هل حقاً سرق منك البعض ألحانك؟

فابتسم في تسامح وهو يقول:

ـ «اللي فات مات.. وأهل السماح عاشوا ملاح».

فالرجل عاش حياته لا يفتش في دفاتر الأمس، ولا يشغل باله بهواجس الغد، وكل ما يعنيه أن يغنم من الحاضر لذاته، وكأنه المرهون في ثياب الخيام.

ويروي طلال مداح أن أول مرة استضاف فيها الفنان عبد الله محمد في بيته بالطائف للتعرف عليه عن قرب انتهت بمأساة، فلقد حضر عبد الله محمد يقود دراجة نارية ضخمة لا يحسن قيادتها، وعند خروجه من بيت طلال دهس أحد المارة مسبباً له نصف «دزينة» من الكسور الخطيرة!! ويروي طلال أيضاً كيف رافق عبد الله محمد ذات ليلة إلى فرح بمدينة الطائف، وكان من المتوقع أن يحصلا على مبلغ كبير نظير الغناء في ذلك الحفل، لكن العريس، الفظ، الغليظ، المتجهم، لم يرق لمزاجية عبد الله محمد، فصعد إلى منصة الغناء، واستلم المايكرفون، وراح ينكت غناء على العريس، ويحرف في كلمات الأغاني، فتحولت أغنية «طل القمر» إلى «طل ...»، وتملك العريس الغضب، فقفز إلى المنصة، ودخل في عراك مع عبد الله محمد، شمل طلال مداح، والعازفين، ليسقط المسرح الخشبي بالجميع، وكان نصيب طلال وعبد الله محمد الكثير من الكدمات والجروح..

كما أن المرة الأولى التي حاول أن يقود فيها سيارة لم يجد ما يصطدم به سوى إدارة مرور الطائف!

* على خطى المبدعين

* رافقت عبد الله محمد طوال حياته الكثير من الحظوظ العواثر، فعلى الرغم من مشواره الفني الكبير، وأغنياته التي انتشرت على كل الألسنة، وألحانه التي تغنى بها كوكبة كبيرة من فناني عصره، وفي مقدمتهم نجما الأغنية السعودية: طلال مداح، ومحمد عبده، إلا أن عبد الله محمد لم يجن من كل ذلك المشوار سوى قبض الريح، وكأنه سار على نفس قضبان الزمن التي سار عليها كبار الموسيقيين أمثال الفنان البولندي الشهير «شوبان»، الذي كان عليه أن ينهض من فراش المرض محمولاً بواسطة الأصدقاء ليعزف حتى يعود ـ كما يقول ـ بما يكفي قوت يومه..

ويمكن أن يمدنا علم النفس بتفسير مقنع لمصير الكثير من الفنانين، وعلاقتهم بشظف العيش، فالعالم الشهير «يونج» يرى بأن «كل فرد يولد مزوداً بقدر محدود من الطاقة، فتحتكر القوة الغالبة لنفسها كل تلك الطاقة، ولا تدع لغيرها إلا النزر اليسير»، ولما كانت القوة الغالبة لدى الفنان هي الفن، فإنها غالباً ما تحتكر كل طاقة الفنان، وتستغرقه فيها من غير أن تدع له سوى القليل منها، والتي لا تكفي لمواجهة أعباء الحياة.. وهكذا كان فناننا الجميل عبد الله محمد، فلم يعرف عنه أي اهتمامات حياتية أخرى خارج الفن.. فالناس حوله في أرجوحة الحياة تصعد بهم وتهبط، وهو في مكانه مكتفياً بالفن وحده عن سائر اهتمامات الدنيا، حتى إنه لم يتزوج، أو يسعى إلى تكوين أسرة إلا في السنوات الأخيرة من حياته.

* اللقاء الأخير

* وحينما داهمه المرض، وأفقده صوته وحركة يده، لجأ مع زوجته وابنتيه الصغيرتين إلى شقة صغيرة مستأجرة في مدينة جدة، يواجه تقلبات الأيام صابراً محتسباً.. وعندما أمر له الأمير فيصل بن فهد (رحمه الله) بعمارة يسكنها، ويقتات من دخلها، ذهبت إليه مهنئاً برفقة الزميلين الصحافيين علي فقندش، ووحيد جميل، فوجدناه يعانق السحاب بمعنويات عالية، وهو يحاول أن يقول رغم تعثر الكلمات في الحنجرة:

ـ أخيراً.. آن لعبد الله محمد أن يستريح.

وراح يطوق بذراعه السليمة ابنتيه الصغيرتين آنذاك، ويتأمل وجهيهما، ودموع الفرح تتساقط من زوايا عينيه.. ثم أخذنا بعد ذلك إلى خزانة صغيرة ضمت عدداً من الدروع والميداليات وشهادات التقدير، ليقول:

ـ هذا ما خرجت به من رحلة الفن.

فقلت:

ـ لو جمعت القلوب التي أحبتك لما وجدت مكاناً يتسع لها.

فأسقط رأسه على صدره، وأطرق ملياً قبل أن يرفعه من جديد، وهو يتمتم بصوت خفيض وحروف متعثرة:

ـ «شكراً لهم.. أبلغوهم أنني أحبهم».

ولم يدعنا نمضي إلا حينما تعالى صوت المؤذن في المسجد المجاور:

ـ الله أكبر .. الله أكبر معلناً مولد الصباح..

تلك كانت المرة الأخيرة التي شاهدته فيها..

ولم أكن أعلم أنه الوداع الأخير.. ولم أكن أدرك أنه سوف ينسل من بين عيوننا كشعاع ضوء.