المخرج تيم بورتن.. يحقق مرة أخرى مغامرة صعبة

أفلامه مشاريع سينمائية خلاقة جادة أكثر من كونها بضاعة استهلاكية

مشهدان من فيلم تيم بورتن الأخير
TT

عندما نتحدث عن المخرج تيم بورتن بالتحديد، فإننا بكل تأكيد نتحدث عن مخرج يأتي من بين أسماء قليلة في هوليوود ممن يحيطون أعمالهم بالكتمان إلى أن يحين عرضها في صالات السينما، فعلى الرغم من ضخامة إنتاج تلك الأفلام، إلا أنها تبقى عصية على الإعلام حتى تكون جاهزة للعرض على شاشة السينما، وبالتالي فهي بعيدة عن أي مؤثرات ايجابية أو سلبية مسبقة. وبورتن بمغامرته تلك يراهن دائما على جمهور متلهف لأي عمل يقوم به واحد من أذكى وأبرع مخرجي هوليوود في السنوات الأخيرة. فأفلامه التي يقوم عليها هي مشاريع سينمائية خلاقة جادة أكثر من كونها بضاعة استهلاكية تنتجها ماكينة استوديوهات هوليوود. وهو إذ ذاك يأتي إلى جانب أولئك القلائل أيضا الذين يثبتون أن النمط الهوليودي يمكن أن يكون متميزا إذا أدير بشكل جيد متحاشيا كليشات السينما الهوليودية الجافة والساذجة، فالخامة هي خامة هوليودية ولكن الصنعة صنعة فريدة وذات نكهة خاصة. وهو في آخر أعماله Sweeney Todd The Demon Barber of Fleet Street يعود ليواصل ذلك النمط الذي ارتآه لنفسه ونجح مرة أخرى في تحقيق معادلة صعبة التحقيق.

الفلم مقتبس عن مسرحية موسيقية شهيرة تحمل نفس الاسم عرضت على مسارح برودواي نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينات الميلادية، وهي من تأليف الموسيقي ستيفن سوندهام، الذي حاز عدة جوائز توني عن مسرحيته تلك. وكما هو العرض المسرحي تقوم حكاية الفيلم على شخصية أدبية كلاسيكية ظهرت لأول مرة في بعض الروايات الأدبية في القرن التاسع عشر كما قدمت على بعض المسارح اللندنية. حلاق لندني يدعى ببنيامين باركر يحكم عليه احد قضاة لندن بالنفي إلى استراليا ظلما، ليحظى بزوجته الجميلة وابنتها، وبعد 15 عاما من النفي يعود إلى لندن إنما ليست بلندن الفتية الزاهية التي كان ينظر إليها، فقد أضحت أكثر كآبة وسقما، أو هكذا ظهرت له، عاد إليها يضمر حقدا دفينا باسم آخر هو سويني تود. وما إن تخبره صاحبة مخبز لصناعة الفطائر، هي الأسوأ في لندن، بأن زوجته قضت نتيجة تناولها السم وان ابنته محتجزة لدى القاضي الذي أصبح وصيا عليها، حتى استشاط غضبا وراح بمساعدتها يقوم بأعمال قتل وحشية ودموية بمشرط حلاقته والتخلص من هذه الجثث بحرقها وصناعة فطائر منها.

يمتاز أسلوب بورتن عادة بمظهرين ونمطين بارزين حاضرين دائما في معظم أعماله، الأول هو النزعة الميلودرامية الموسيقية التي تغلف بها شرائطه. فرغم أن هذا العمل هو الأول لبورتن الذي يمكن القول إنه قد تكاملت عناصره الموسيقية والغنائية، إلا أن النظم الإيقاعي لديه كثيرا ما ينزع إلى الأنماط الموسيقية. فالخطوط الميلودرامية تميل إلى المزج بين منولوغات داخلية موسيقية الطابع تتحدث فيه شخصياته إلى ذاتها مصحوبة بخلفية موسيقية تتناغم وخواطرها وهمساتها الشخصية. وفضلا عن ذلك فـ«سويني تود» كان فلما غنائيا بكل ما تعنيه الكلمة، فغالبيه حوارات ومنولوغات الفيلم منذ أول مشاهده وحتى آخرها حتى في أكثر مشاهده الدرامية تدفقا وكثافة هي غنائية. وهو لهذا يمكن أن يشار إليه بأنه مسرحية مصورة بإمكانات سينمائية أكثر من كونه فيلما غنائيا يفترض أن تغلب فيه مكونات الصورة السينمائية فيه على الأداء المنولوغي الغنائي. وهذا في الواقع الذي انتزع من الممثلين أيضا حضورهم السينمائي لتبقى فقط مجهوداتهم المسرحية البحتة. وجوني ديب الذي رشح لأكثر من جائزة بما في ذلك اوسكار أفضل ممثل عن دوره ذلك لا يخرج من هذه الدائرة، والذي أرى أنه قدم واحدا من اضعف أدواره السينمائية مع تيم بورتن بالذات. فهو على الرغم من القدرة المسرحية الميلودرامية الكبيرة التي برزت لديه إلا أنها ابتعدت في المقابل عن تفاعلها مع الخلفية السينمائية للصورة، عكس الممثلة الإنجليزية المتألقة هيلينا بوناهم التي تجدها تنتقل من لقطة إلى أخرى معطية كل لحظة حاجتها الدرامية ففي اللحظة الواقعية تتحدث بواقعية وفي اللحظة الغنائية تغني وهي مدركة لكل ما يحيط بها.

وعود على نمطية الصورة لدى بورتن نتحدث عن المظهر الآخر ألا وهو القدرة العالية على المزج بين الميتافيزيقا والأسطورة والفنتازيا بصورة سوداوية قاتمة تستلهم سوداويتها من جوانب غير اعتيادية، فالموت مثلا لا يمثل لديه إلا جانبا عبثيا من جوانب المأساة. وقد كانت تلك العبثية موضع تساؤل له في فيلم التحريك السابق الذي قام بإخراجه Corpse Bride الذي جعل من جثة عروس مقتولة بصوره بشعة حلقة وصل ممتعة بين عالمين، عالم الأموات فيها أنقى وأجمل من عالم الأحياء. وهنا أيضا فسوداوية الفيلم تأتي بشكل بارز من الحقد ودافعية الانتقام وجمود مشاعر شخصياته، في الوقت الذي لم يعر للموت ولا للفراق أو الحب أي اهتمام سوى الحاجة لإكمال ملهاته الميلودرامية. لا شك أن الفيلم لا يمكن أن يكون أفضل أفلام بورتن، إنما أيضا ومما لا شك فيه انه بخوضه تجربة جديدة وجرئية وبتضمينه لها لمساته المعهودة تجعل من عمله هذا إضافة حقيقة لمخرج ذي خامة نادرة استطاع أن يجمع بين الإيقاع السريع والتسلية الراقية والرؤية المتميزة وتضمينها أفكارا عميقة وإنسانية جذابة.

[email protected]