أغنيات من الأصابع الفائقة المهارة

فوزي كريم

TT

.الفائق المهارة في العزف على الآلة الموسيقية، او حتى في الاداء الغنائي، عادة ما يطلق عليه لقب «فيرتيوزو». كان باخ، بيتهوفن، ليست، باغانيني، رحمانينوف وآخرون كذلك. شومان (1810 ـ 1856) بالغ في تمارينه باتجاه ذلك، حتى أتلف اصابعه. ولأن الاقدار كتبت عليه ان يكون رمزا لكل الحركة الرومانتيكية في القرن التاسع عشر، اكملت عدته بمرض الكآبة، ثم محاولة الانتحار، ثم الجنون والموت المبكر. هذا بالاضافة الى تجربة حب احاطت كل سيرته بالمباهج المصوتة.

ولكن هؤلاء من صنف الفيرتيوزو والمؤلف. هناك من ملك المهارة في العزف وحده، فهو فيرتيوزو الاداء والتقنية، وصفة اخرى اكثر اهمية، هي القدرة على تفسير العمل الموسيقي من وجهة نظر العازف، ومحاولة اعادة خلقه. هؤلاء عملة نادرة ايضا. في عصرنا الحديث عرفنا عددا منهم، لكن الكندي «غلين غولد» (1932 ـ 1982) كان الاكثر استثارة، فقد بلغت مهارته وخصوصيته في تفسير العمل حداً بدا لكثيرين شديد الغرابة. قطع «غولد» علاقته بالعزف للجمهور منذ 1964 واقتصر في العزف على الاستوديو وحده، يختلي فيه بنفسه مع آلته الوحيدة، ومع حريته في التأويل والتفسير لكل نوتة على الورق. لقد اكتشف في الخصوصية وفي العزلة وفي الامان «امان الرحم» ـ على حد تعبيره ـ الذي يحققه الاستوديو، مجالا رحبا للتعبير المباشر والشخصي. هذا الميل سايكولوجي دون شك، ويكشف عن حساسية شاذة. فإن احدا لم يعزف باخ بالطريقة الغرائبية التي عزفه بها غولد. ولذلك تبدو اعمال باخ بين يديه خارج مدار باخ المألوف. إن غرائبية غولد الشخصية، من ارتداء معطف في الصيف والاصرار على مقعد البيانو المهترئ الخاص به وهمهمته المسموعة المصاحبة للتسجيل، انما تنعكس على عزفه الذي لا يقل غرائبية. ان رؤيته وهو في غمرة العزف متعة بحد ذاتها، ولذلك اطمع لكل محب للموسيقى بأن يطلع على عزف غولد الشهير لـ«تنويعات غولدبيرغ» التي وضعها باخ وهو في ذروة نضجه. يطلع عليها مسموعة ومرئية في اصدار Sony الجديد على اسطوانة DVD. ان أي لقطة من فوق على العازف واصابعه ومفاتيح البيانو لتشعرك بأن هناك اكثر من يدين مشاركتين واكثر من عشرة اصابع. حتى الهمهمة لتبدو طيفا يطل من عالم ما ورائي شأن «التنويعات» ذاتها. مع «التنويعات» في هذا الاصدار مقدمة، هي حديث موجز مع غولد اجراه برونو ماسينيون.

«فيلهلم كيمبف» (1895 ـ 1991) الالماني فورتيوزو بارز ايضا وانساني النزعة، يعزف بدفء وغنائية، وهو يستل كل طاقة لحنية من مفاتيح البيانو، وكل لون. بدأ الكشف عن مهارته منذ التاسعة، ومع السنوات اتسع حقل عزفه لكل اعمال البيانو مهما اختلفت اساليب المؤلفين. ذات يوم وهو في الخامسة والثمانين كان يعزف لدائرة صغيرة من اصدقائه، وتوقف فجأة، اغلق البيانو قائلا بصوت هادئ «سعيت طوال حياتي لأن املأ قلوب الناس بالحب والمباهج عبر موسيقاي. انني متعب الآن ولن اقدر على ذلك». وانصرف لحديقة البيت وتأمل النجوم، في اقامته الايطالية.

انصرف «كيمبف» لأكثر من عقد لتأمل واختبار اعمال «شومان» على البيانو، فلدى الاخير ما لدى الاول من خواص الرومانتيكي الذاتي الفائق المهارة، وخواص التعبيري الذي ينبش عما وراء السطح اللحني الظاهر. درس مخطوطاته الموسيقية وخلفياتها الروحية والثقافية. ولقد عرفنا الروحية منها، اما الثقافية فقد كان شومان من الموسيقيين القلائل الذين ارتبطوا بالحياة الادبية والفكرية، حتى كان ناقدا موسيقيا مرموقا، ولقد اصدر مجلة معروفة في هذا الشأن، ولم يكن «كيمبف» اقل اهتماما بالادب منه.

ولكن العازف المعاصر لم يسجل لكل اعمال شومان. كان يعتقد ان سنواته الملتبسة الاخيرة اضعفت صفاء روحه، ولذلك انصرف لاعماله المبكرة الاكثر نضجا فسجل منها 14 عملا، اعادت شركة Deutsche Grammophon اصدارها في اربع اسطوانات. ان في هذه الاعمال المبكرة لمسة حب لا تخفى على من يعرف سنوات حب شومان لـ «كلارا» التي اصبحت زوجته. كما ان فيها من ملامح السيرة الذاتية الكثير، خاصة «الفانتازيا» و«مشاهد غاب» و«مشاهد من الطفولة».

في مرحلة شومان كان هناك فيرتيوزو كبير يدعى «الكان» (1813 ـ 1888) برع منذ السادسة. لم نعرف له اليوم الا عملين الاول «السوناتا الكبيرة» و«سيمفونية على البيانو المنفرد» وبضعة اعمال قصيرة. هاجمه شومان حين اصدر عمله الثاني لغرائبيته. وردود الافعال التي مثل شومان دفعت حساسية «الكان» الملتبسة الى العزلة والنسيان.

ان الاستماع الى سميفونيته على البيانو، وقد صدرت عن دار Hyperion في حركاتها الاربع، يجعلنا نقدر الفزع الذي ألم بموسيقي مثل شومان الكلاسيكي النزعة. على ان فرانس ليست، الاكثر طليعية وتجريبية، كان احتفائيا بقوى «الكان» التعبيرية.

بناء سيمفوني على آلة البيانو وهذا يعني انك تتابع في كل نوتة صوتا اوركستراليا. ومن هنا تتأتى صعوبة عزف هذا العمل. لكن «مارك ـ اندريه هاميلين»، من مواليد مونتريال 1961، فيرتيوزو ايضا، وعزفه هنا ينم عن براعة وعمق في فهم الطبيعة الحارة لعواطف «الكان».

اصدارات ثلاثة من اعمال البيانو على الاصابع الفائقة الماهرة، من باخ، عبر شومان، لألكان، ما اوفر مباهج الروح لمن يعرف! Glenn Gould Plays Bach (Sony) Kempff Plays Schumann (DG) Hamelin Plays Alkan (hyperion)