السينما والتقنية.. إعادة تشكيل أم فن بديل؟

TT

قد نجد وجاهة كبيرة في القول القائل بأن السينما هي المظهر الفني الأبرز الذي ينتمي للثورة الصناعية الحديثة، فهي تقريبا الفن الوحيد الذي لم يكن له أي مرجعية سابقة أو محاولات أو حتى إرهاصات سابقة لانطلاقته المفاجأة، والتي لم تكن لتكون بدون تلك الآلة الصغيرة التي ابتكرها توماس اديسون أواخر القرن التاسع عشر. فحتى الصور المتحركة التي سبقت ذلك التاريخ لم تكن سوى خليط من أجناس متعددة من الفنون العتيقة. وإذا كانت تلك الفنون العتيقة يعود تاريخها نشأتها إلى استخدامات أولى لم يكن لها أي اتصال بمفهومها الفني الذي تشكل لاحقا فإن هذا الاختراع المسمى السينماتوغراف قد تلقفته أيادي فنانية منذ ظهوره لأول مرة لتشكيل فن جديد كل الجدة. وكما هو معلوم فقد نتج عن هذا التسارع الصاروخي في تطور ذلك الفن الجديد ردود أفعال سلبية في بادئ الأمر. فنظرة فناني تلك الحقبة إلى السينما كانت نظرة ازدراء وتحجيم كونها تفتقد إلى كل مقومات الفنون الأخرى وأبجدياتها، خصوصا وان ذاكرة نشوء الفن تعود إلى زمن بعيد لم يعد حينها من المتخيل أن تخرج أي محاولة فنية جديدة عن محيط تلك الفنون القديمة بنمطيها الصوري والإنشائي. وقد أبدى كل قطب من تلك الأقطاب رؤيته الحادة للسينما بكونها ماهي إلا شكل من أشكال فنه الذي يتبناه، فالمسرحيون كانوا يشيرون إليه بأنه محاوله إلى نقل المسرح إلى الشاشة، والأدباء أشاروا إليها بأنها مجرد رواية مصورة. إلا أن جهود السينمائيين الأوائل لم تدع أي فرصه لهذا أو ذاك، واستطاعوا وخلال فترة وجيزة أن يخلقوا فنا جديدا وتأصيله تأصيلا مستقلا يرتكز ولأول مرة في التاريخ على احتلال الزمن مكانة مهمة في صياغة الجملة والرؤية الفنية، ومن ثم جعله جزءا لا يتجزأ من مزيج سيميائي بليغ الدلالة تشكله الصورة والزمن معا.

وفي الوقت الذي استقلت فيه السينما استقلالا تاما، استمرت الثورات التقنية في التلاحق، وقد شهد العقدان الماضيان ثورة لا مثيل لها في هذا المجال، أسهم في ظهور تقنيات جديدة في صناعة الصورة تحتل فيها الثورة الرقمية الجزء الأكبر بإمكاناتها المذهلة، حيث أصبحنا نسمع ونشاهد بعدا ثالثا للصورة، كما أننا نشهد في السنوات الأخيرة تجارب طموحة في صناعة صورة تفاعليه تسمح للمشاهد ولأول مرة بالمساهمة في التفاعل الإيجابي مع الصورة. إن هذه الإسهامات التقنية أضافت ودون شك أبعادا أخرى يمكن استغلالها لصالح صناعة فن جديد لا يمت لأي من الفنون الأخرى بصلة بما في ذلك السينما. وإن مغازلة السينمائيين لتلك التقنيات ومحاولة تطويعها لخدمة السينما لم تضف إلى مفهوم السينما ولا اعتقد أنها ستساهم مستقبلا وبصورة فاعلة في مسيرتها الفنية، وهي تشكل في بعض صورها عبثا سينمائيا وترفا لا طائل منه، وهي تذكرنا كما اشرنا سابقا بما حدث للسينما من محاولات يائسة لاستمالتها الفنون الأخرى مطلع هذا القرن الماضي. ولذلك فإننا في الوقت الحالي نقف على مفترق طرق، فإما أن تجد هذه التقنيات من يتبناها ويسعى لأن يخلق منها فنونا جديدة ليس لنا سابق عهد بها. وإما أنها ستتوقف طوع فنون أخرى لا تحقق من خلالها أي انجاز حقيقي وبارز في مسيرة الفن بمفهومه الكبير.