ماذا تبقى من الأغنية العربية بعد اختفاء أغلب ظواهرها؟

بدأت بالأسمر ثم المدن والحواري وانتهت بالعواذل

فيروز من الفنانات اللاتي شاركن في جميع الأغاني التي حملت مظاهر عصرها («الشرق الأوسط»)
TT

حاول صناع الأغنية منذ القدم تقريب الاغنية من الناس وجعلها احدى مفردات حياتهم اليومية، وذلك بتبسيطها وتسهيل مفرداتها واستخدام الابيات القصيرة والسريعة الايقاع، كذلك بتناول جميع الموضوعات الحياتية والاجتماعية المختلفة، خصوصا بعد منتصف الخمسينات، ثم في الستينات والسبعينات، حيث جربت مختلف الطرق والاساليب لمنح الاغنية صفة اجتماعية وروحا شعبية. فبرزت ظواهر عديدة، لعل ابرزها، ظاهرة التغزل باللون الاسمر، ومع ان الغناء للاسمر موجود منذ القدم الا انه تم التركيز على هذه الظاهرة بعد منتصف الخمسينات، حيث باتت معظم الاغاني تتحدث عن الاسمر وجماله وتأثير افعاله على المحبين.. ناظم الغزالي: سمراء من قوم عيسى، كارم محمود: سمرة يا سمرة، عبد العزبز محمود: يا سمر يا جميل، فايزة احمد: اسمر يا اسمراني، عبد الحليم: سمراء يا حلم الطفولة، محمد عبده: اسمر عبر، عبد الكريم عبد القادر: آه يا الاسمر يا زين.. الخ. واستمر طغيان اللون الاسمر على الاغنية العربية عموما مع بعض الاستثناءات هنا او هناك، ولعل السبب يعود الى ان البيئة العربية بيئة سمراء.. فالارض سمراء والبشرة سمراء والعيون سمراء والشعر اسمر.. ومن البديهي ان يتغنى الشعراء بالبيئة التي ينتمون اليها.. وليس كما كان يشاع من ان الشعراء يقومون بحملة دعائية لصالح السمر. الظاهرة الاخرى هي ظاهرة استخدام المدن والحواري في الاغنية، ولعل اقدم اغنية مشهورة تحمل اسم مدينة هي اغنية ليالي الانس في فيينا، ثم انا ساكن في السيدة وحبيبي ساكن في الحسين، عالصالحية يا صالحة، يا غاليين عليه يا اهل اسكندرية، قالوا حبيب الروح بالناصرية، بولاقية، كلنا حلوين يا بنات سنباط، من ضيعة حملايا على ضيعة تنورين، اما صباح فقد طلبت خط بيروت، من باب ادريس للحمرا.. لفرن الشباك للدورا.. وترجعني تا ازور الاشرفية. اما الظاهرة الاكثر شيوعا في اغاني الستينات والسبعينات، فهي ظاهرة استخدام الاسماء المتداولة في المجتمع، ومع ان الاسماء موجودة في الفلكلور العربي عموما مثل، يا حسن يا خولي الجنينة، يا بهية وخبريني، ربيتك زغيرون حسن، دق المهباش يسويلم، يا عنيد يا يابه. الا ان فترة الستينات والسبعينات شكلت الفترة الخصبة لتلك الظاهرة وبدأت الاسماء تظهر في اغاني الافلام مثل: برهوم حاكينا، احمد يا شاغلني، لأ يا سي احمد، يا مصطفى يا مصطفى، زينه والله زينة، نورا نورا يا نورا.. الخ ثم اشتدت المنافسة فغنت شريفة فاضل: توحيدة، وحياتك يا شيخ مسعود، يا بقوص حالي وبرتاح.. يا بتجوز عبودي، وغنى شفيق جلال: امونة، مش كده ابدا يا عزيزة، ليلى نظمي: بهية، امّة نعيمة، عيب يا مديحة، موفق بهجت: هيفا يا هيفا، يا صبحا هاتي الصينية، محمد رشدي غنى لوهيبة وعدوية ونعناعة، عبد الله بالخير غنى لعلاية، وسعدون جابر غنى لبشيرة ونجوى، واغان قليلة في الثمانينات مثل مريم مريمتي، ليندا، وصبوحة خطبها نصيب.

اللبنانيون اكثر من استخدم الاسماء في الاغاني.. نجاح سلام برهوم حاكينا، وديع الصافي غنى لسلمى ومنافستها ليلى، نصري شمس الدين محبوبة قلبي هالة، وليد توفيق غنى لعزيزة، وسميرة توفيق لعلي، وطروب لصبرية. اما فيروز والرحابنة فقد استخدموا الاسماء التي لها رنين وشعبية عند المستمع اللبناني بشكل خاص فغنوا: يارا الجدايلها الشقر، عبدو حبيب غندورة، يا لور حبك، لينا ويا لينا، ثم انا وشادي، وعلي وعوده الرنان وبينهما حنا السكران، اضافة الى ليلى وعليا وزيون اللي ستها من كحلون. واكثر مطربة استهوتها فكرة عرض الاسماء في الاغاني هي المطربة صباح فغنت: الاقي زيك فين يا علي، حسونة ما تحن عليه، جنني سمعان شيبني سمعان، زنوبة، وين معروف وين محمود.. وين الياس وين حسين؟ عزيز يا عزيز، جيب المجوز يا عبود، نصالح عبد الله.. يزعل شكر الله.

اضافة الى ذلك كانت الاغاني القديمة تطرح مواضيع اكثر واقعية وشمولية مثل شكوى المرأة من الهم البيتي او زواج زوجها بامرأة اخرى وقلة حيلتها ازاء ذلك: شأقول على حظي انا البنية.. رجلي تزوج فوق راسي مرية (امرأة)، خليه يتجوز يا بهية وح اشوف آنه والا هية، او عن الخطوبة والزواج: يا دبلة الخطوبة، والنبي مخطوبة، يختي خطبوني، نيشان الخطوبة اليوم جابولي. كذلك هناك الاغاني التي تحدثت عن المهر، المشكلة الازلية، قلت لابوكي عليكي وقلّي خلي المهر بجيبك خلي، غالية ومهري غالي. او اقتراحات لتوفير المهر، بيع الجمل يا علي واشتر مهر الي. ثم الاغاني التي تتحدث عن العائلة: يا ست الحبايب، يا امي يا ام الوفة، يا غالي علية يا خوية، يللي كلامك حلو يا بويه، حبيبة امها، بنتي امورة، يجوزي يحنين، و اكثر تلاتة بحبهم.. ابني وبنتي وامهم لاسماعيل شبانة. ثم اغاني المهن والحرف: حبيبي نجار، محبوبي جندي بالجيش، محبوبي الغالي طيار، انا فلاح وابويه فلاح.

اما ابناء وبنات الجيران فكانت لهم مكانة مرموقة في الاغنية: ناظم الغزالي: طالعة من بيت ابوها ورايحة لبيت الجيران، محمد فوزي: بعد بيتنا ابيت كمان.. حلو ساكن من زمان، عبد الحليم: خسارة خسارة فراقك يا جارة، نجاة: ساكن قصادي، شريفة فاضل: جاري يا احلى جار.. ولا ننسى جاري يا حمودة.

شخصية العذول التي منحت الاغنية العربية بعدها الدرامي المميز لها، لأنها مثلت عنصر الشر المعادل لعنصر الخير، المتمثل بالحبيبين، كان لها حضور قوي في الاغنية القديمة، العواذل ياما قالوا، عذالك علموك، يا عواذل فلفلوا، كايدة العذال، والنبي لنكيد العذال.. اهواك رغم العذول.

وظلت هذه الظواهر سائدة في الاغنية العربية حتى نهاية الثمانينات ثم بدأت بالاضمحلال والاختفاء، ومع بداية التسعينات لم تعد الاغنية الحديثة تهتم او تكترث بشيء.. لا بالاسمر ولا بالعذول ولا بالمدن والحواري ولا حتى بأبناء وبنات الجيران. ولا ندري، حقا، هل ان الشعراء انفصلوا عن بيئتهم السمراء وصاروا يبحثون، عبثا، عن عوالم جديدة؟ وهل ان مدنهم وحاراتهم الشعبية لم تعد تستهويهم او تستوعب احلامهم؟ وان ابناء وبنات الجيران صاروا لا يملؤون العين والقلب؟ او ان كل هذه الامور صارت جزءا من الماضي يجب تجاوزها ونسيانها؟

لقد تخلت الاغنية الحديثة عن اهم مكونات الاغنية العربية وفقدت معظم مميزاتها، خصوصا الموضوع.. وقبله الطرب، الموشح بالرومانسية، وبفقدان هاتين الميزتين واختفاء تلك الظواهر تكون الاغنية العربية قد فقدت هويتها المستقلة المميزة لها وابتعدت كثيرا عن جذورها، فالاغنية الحديثة لم تعتمد منهجا او تتبن ظاهرة وليست لها ملامح واضحة، تغلب عليها الاساليب الهجينة ويتم التركيز فيها على المظاهر الشكلية في العملية الفنية من اجل الانتشار السريع والكسب المادي وليس لاغناء المسيرة الفنية الفردية او لصناعة تاريخ فني جماعي تستفيد منه الاجيال المقبلة بحيث يكون منهجا تسير عليه وتراثا تغتني به. ويبدو ان الاغنية العربية تمر بمرحلة تجريبية طال مداها ولم تتوصل الى اكتشاف ما تبحث عنه، اذا كان هناك ما تبحث عنه. ولكي نكون منصفين فإن بعض الاغنيات الجميلة تنبع هنا وهناك بين فترة واخرى، ولكنها قليلة، للاسف، وحولها «الطبول الفارغة اصواتها عالية».