مخرج إسرائيلي يقدم رؤية لا يجرؤ على تقديمها أي مخرج عربي

«الرقص مع بشير» عن مجزرة صبرا وشاتيلا يعكر على الدولة العبرية احتفالاتها

مشهدان من الفيلم
TT

لا يزال الفيلم الإسرائيلي «الرقص مع بشير» WALTZ WITH BASHIR منذ اللحظة التي انتهى فيها عرضه الأول، أول أيام مهرجان «كان» السينمائي حتى لحظة كتابة هذا المقال، هو الأكثر بروزا ومتانة وأصالة بين الأفلام المعروضة في هذا العام. ففي الوقت الذي تحتفل فيه إسرائيل بمرور 60 عاما على إقامتها، يأتي هذا العمل لائما وموبخا وساخطا، وفاضحا، ما دعا عدة جهات إسرائيلية إلى تأجيل عرضه ريثما يفيق الإسرائيليون من خمره احتفالات لا يريدون تنغيصها برؤية مغايرة ويمكن طرحها في وقت لاحق. لكن المخرج الإسرائيلي اري فولمان كان يريد شيئا آخر، فمشروعه ليس مشروعا إسرائيليا وحسب، إنما مشروع إنساني لكل إنسان يعيش تحت وطأة أنظمة تجعل من مصالحها حاكما فوق حقها الطبيعي في رفاه الوجود وسلامته. إنه أراد به رسالة لكل من أراد أن ينزع الإنسان من إنسانيته وإلباسها لباسا مؤدلجا ومسيسا بسياسات لا تبالي إلا بكينونتها الذاتية. وهو ينطلق، ابتداء من عنوان الفيلم، في معزوفته الملحمية الساخطة على كل تلك الزعامات السياسية التي تقف خلف شعارات قومية وشعوبية براقة سواء على الجانب الإسرائيلي أو العربي أو أي مكان. بشير، عنوان الفيلم، هو الرئيس اللبناني السابق بشير الجميل، وراقصة الفالس هي إسرائيل، ومسرحيتهما الراقصة السوداوية قامت على مسرح مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين، وعلى أشلاء المدنيين العزل. لم يسع فولمان إلى تحقيق ذلك بسرده لحقائق مجهولة، أو الكشف عن ملابسات احداث لم تكن معروفة، ولم يكن ذلك في الواقع من اهتمامات الفيلم ككل. فالحقيقة لم تكن أصلا غائية يوما ما. وهي عند الإسرائيليين كما عند العرب حكاية ورواية واحدة، اطلع الشعب الإسرائيلي عليها في حينها، واعترفت إسرائيل بتورطها في تلك الجريمة البشعة وذهب على أثرها وفي فترة قصيرة بعض من كبار المسؤولين الإسرائيليين أبرزهم وزير الدفاع آنذاك أريل شارون. ولكنه وعوضا عن السرد المجرد للحادثة أراد أن يستعيدها ويستذكرها بصورة تأملية شاعرية مؤلمة. وتفضيل فولمان للصورة الرسومية في توثيقه سمح له بهذا النوع من التأطير الذي عزز فيه تلك النزعة السريالية التأملية. فهو اخذ من فرويد تعميقه للاشعور، ومن فاغنر صورته السوداوية المتشائمة، ومن بريخت نظرته الملحمية الساخطة والعاتبة. الفيلم يبدأ بحلم وينتهي بحقيقة، وما بينهما خطرات تراوح بين الوعي واللاوعي، والشعور ونقيضه، والانطباع والواقع. يلتقي فولمان يوما احد أصدقائه الذي يحكي له حلما مزعجا ظل يراوده طويلا يدور حول ملاحقة كلاب حراسة مسعورة له وعددها 26 كلباً. تعسرت على فولمان معرفة تفسير ذلك الحلم، إلا أن تأثيره عليه كان بالغا، فقد بدأ يستعيد حلمه الغامض الذي ظل يراوده طويلا وأصبح مقلقلا له أكثر من أي وقت مضى، وتقع أحداثه في بيروت أيام الاحتلال الإسرائيلي. وللبحث عن خلفيات هذا الحلم ومسبباته بدأ فولمان محاولة اللقاء بكل من له علاقة بحلمه ذاك الذي كان مرتبطا بحسب ما يعتقد بأحداث صبرا وشاتيلا البائسة. إن تلك المراوحة المتواصلة بين الحلم والواقع استطاعت أن تمارس نوعا من التطهير الذاتي للتراكمات النفسية التي يعاني منها المخرج باعتباره جزءا من ذلك الحدث، إلا انه أيضا وببعثه للاوعي والتأثير به على وعي المشاهد بصور جمالية استثنائية هو ابرز ما نجح فولمان بتحقيقه بجداره. وتجرده البالغ من أي مؤثرات سياسية يمينية أو يسارية جعلته على الحياد دائما، كما أنها لم تقف عائقا أمام أي انطباع ذاتي حول أي حدث معين بغض النظر عن السخط الذي يمكن أن تثيره. كان صريحا وجريئا، فلم تبق أي حصانة لأي من كان، من مناحيم بيغن إلى شارون، مرورا بحزب الكتائب اللبناني وزعاماته العسكرية والسياسية. لقد كان جريئا وانطباعيا إلى مستوى عال جعله في لحظة تجرد صادمة وقاسية يشبه مشهد إخراج الفلسطينيين من المخيم عشية المجزرة بأنه لا يقل قسوة عن مشاهد اليهود في وارسو الذين اقتادتهم القوات النازية إلى محارق الهولوكوست. إن مثل هذه الجرأة والحرية البالغة في الطرح تأتي بدعم من بعض أهم المؤسسات الثقافية الإسرائيلية، وهي وبغض النظر عن أي أهداف سياسية مبطنة تؤكد حرية الفنان والمثقف في التعبير بدون أي مساس بهذا الحق الطبيعي. وإن من المؤسف أن نشاهد مثل هذا الفيلم في وقت شهدنا في الأيام السابقة قمعا بربريا لأبسط حقوق التعبير، وإغلاق وحرق عدد من المؤسسات الإعلامية اللبنانية بقوة السلاح، وتحت أسنة الرماح. أشار المخرج في مؤتمره الصحافي إلى رغبته في عرض الفيلم في الدول العربية إلا انه استدرك صعوبة الموقف. فهو قريب عهد بأحداث لبنان وليس ببعيد عما حدث العام الفائت في فيلم «زيارة فرقة» الإسرائيلي الذي أثار جدلا واسعا حينما أشيع انه سيعرض في مهرجان الشرق الأوسط السينمائي في أبو ظبي، رغم نظرته الإيجابية تجاه العرب. وبغض النظر عن كل ما يمكن أن يشاع من دعوات لمنع عرض الفيلم في أي مهرجان عربي، إلا أن الفيلم وبكل تجرد قدم رؤية لا يجرؤ على تقديمها أي مخرج عربي حتى لو أراد ذلك. ولا يمكننا أن نقول في ذلك إلا بما انتهى الفيلم عليه بمشاهد مؤلمة وصورة فيلمية أرشيفية لنواح الفلسطينيات صبيحة المجزرة : «صوروا صوروا... وينكم يا عرب».

[email protected]