الموسيقي الإنجليزي: الخيط الرثائي الذي يتدفق دون عنت

فوزي كريم

TT

هناك ركن حميمي دافئ، وشبه عائلي في الموسيقى الانجليزية. نجده، إذا ما احسنا البحث، في الأصوات الخافتة، التي لم تألف الأضواء ومشاغل الشهرة. هذه الأصوات لك ان تنفرد بها آخر الليل، كما فعلت، لتصغي الى عناصر تلك الحميمية: الخيط الرثائي الذي يتدفق دون عنت، وكأنه يصدر في غفلة عن الرقباء. الرغبة اللحنية في استيحاء الأغنية الشعبية التلقائية. تنهدات المتأمل بالمصير، تنويع غير ارضي على نص شعري.

ان السير ولفورد ديفيز (1869 ـ 1941) احد هذه الأصوات، فاجأتنا به دار DUTTON الانجليزية، وهي المعنية ببعث الموسيقى الانجليزية المعاصرة.. انني لم اعثر على تعريف به حتى في «قاموس اوكسفورد للموسيقى»، فهو لصيق آلة الأورغن، ولصيف الأفق الديني، وكلاهما فرديان يعمقان التواضع والرغبة بالظل. بلغ النضج في مرحلة اول الفجر الذي انبأ بيقظة الموسيقى الانجليزية على يد «الإلغار». وكل الأعمال التي وضعها من رباعيات وترية ورباعيات بيانو وسيمفونية وسوناتات للفايولين لم تعزف، ولم تنشر في مطبوع.

يقتصر هذا الاصدار على بضعة اعمال قصيرة له معظمها على آلة الأورغن، واعمال اورغنية اخرى مهداة له من اصدقائه. وقد لا يتجاوز السبب حماس عازف الأورغن روجر فيشر في تقديمها للناس، قبل ان ننعم بالأعمال المنسية من موسيقى الغرفة.

من اروع هذه القطع عمل قصير (قرابة اربع دقائق) على الأورغن وآلة التشلو، بعنوان «لحن مهيب». التشلو يحاول بتهدج ان يقول شيئاً ينطوي على أسى دفين، يحيطه الأورغن مثل هواء برعاية المواسي، ثم فجأة ينطلق اللحن على لسان كليهما معاً، يبدأ الأورغن ثم يلاحقه التشلو، الذي يحيل تهدجه الى اغنية، او الى نشيد. ثم ينتهيان كما بدآ.

الأورغن سيد الآلات، لأنه قادر على الاحاطة الأوركسترالية. انه افقي الصوت وعمودي حتى ليملأ كل مساحة ولا يترك فراغاً. ديفيز هنا اكثر حميمية من ان يستثمر هذا الجانب. ولذا تبدو مقطوعاته أقرب الى اغنية المبتهلة. العازف فيشر مطواع لهذه الحميمية.

«مارغوت رايت» (1911 ـ 2000) موسيقية انجليزية منسية ايضاً، تحاول الدار بعثها الى الضوء. انها امرأة مليئة بالحنان والأمومة والحقيقة. حميميتها دافئة، حزينة، وذات لمسة رثائية، ومجاورة لسحر الأغنية الشعبية. وهذه خصائص شائعة في الموسيقى الانجليزية. فالسيدة «رايت»، بالرغم من اهتمامها بالموجات الطليعية الاوروبية، وخاصة موسيقى «سترافنسكي»، الا انها بقيت امينة لعالمها الانجليزي الخاص. قليلة التأليف بسبب قلة المحفزات، امام موجات التجديد المتدافعة. ولذلك انصرفت الى التعليم، فهي استاذة «بيانو» من الطراز الأول، ولكن على حساب سمعتها كمؤلفة، وعلى حساب أعمالها.

تأثير الأغنية الفولكلورية يتضح في لحن الحركة الأولى من سوناتة التشول، التي يبدأ بها هذا الاصدار. في الحركة الثانية حوار حي منفعل بين آلتي التشلو والبيانو، وفي الثالثة مفتتح قلق عاطفي يقود الى اعادة التنويع على لحن الحركة الاولى.

التأثير الشعبي يعود في العمل الثاني «اغنيات ثلاث مع آلة كلارينيت». ولكن في اغنية، «لا تخشى ثانية حرارة الشمس» ـ عن قصيدة لشيكسبير ـ تعود المؤلفة الى اللحن المعتم في سوناتة التشلو. ولقد وضعتها اواخر عمرها. عمل آخر رائع الحزن، رائع الذاتية وضعته لآلة الكلارينيت المنفرد تحت عنوان «ارتجال».

العمل الاخير والأكثر استثارة هو رباعية البيانو الوترية، وهو من اعمال شبابها المبكر، حيوي ومشرب بالحس الفولكلوري في الحركة الاخيرة. ولكن في الحركتين الاولى والثانية تغيم الدلالة تحت وشاح غامض لا تفارقه الغنائية.

الانجليزي الثالث، الذي لا يقل حميمية، ولكنه يتسع لمؤثرات ابعد من «بيرد» و«تاليس» الانجليزيين، ويتسع لخبرات تقنية عالية، هو «أدموند روبرا» (1901 ـ 1986) بدأ في التلاثينات منسجماً مع نزعة «المدرسة الرعوية الانجليزية»، ثم بدأ يطور اسلوبه باتجاه لا ينتمي لمرحلة او لمدرسة. موسيقى خصائص لا زمنية، تعتمد لغة هارموني مجردة وفريدة.

اصدرت DUTTON له اكثر من اسطوانة لأعماله في موسيقى الغرفة. وهذا الاصدار الاخير يقتصر على كل اعماله للبيانو المنفرد. الأعمال قصيرة وعلى هيئة مقطوعات، باستثناء الـ«سوناتينا» من ثلاث حركات، و«البرليودز». ان تنوعه على هذه الآلة الغنية يحيط بالأزمنة جميعاً. فأنت حيناً تقرب من فيوغات «باخ» وحيناً من انثوية «شوبان» وثالثة من تصوفية الموسيقي والمفكر «سيريل سكوت»، ورابعة من عوالم الشرق (اليابان).. وفي جميعها تصحب صوت «روبرا» الخاص.

آخر الأعمال تسع قطع تعليمية تؤديها الطفلة «دوسيك» وهي ابنة ميشيل دوسيك، عازف البيانو في هذا الاصدار.

موسيقى ««أدموند روبرا» انجليزية، شأن السابقين، ولكنها لم تقرب الموسيقى الفولكلورية، ولا الهاجس الرثائي، بل عنيت باختبار الآلة وفنون التأليف من اجل استنفاد حدودها التعبيرية. العازف دوسيك حاول ذلك، كما حاولت الفرقة الرباعية الوترية «كاميلي» مع موسيقى «مارغوت رايت»، وكذلك المغني الميتسو ـ سوبرانو «راشيل آن مورغان»، وعازفة الكلارينيت «نانسي بريثويت».

Walford: Solemn Melody (DUTTON) * Margot Wright: Champer Music (DUTTON) * Rubbra: Piano Music (DUTTON) *