رحيل سيد خليفة أشهر فنان أحبه السودانيون وهو يردد ما بودعكم .. ما بفارقكم

نجوميته بدأت عبر «أضواء المدينة» و يوسف وهبي قدمه للجمهور في مسرح القاهرة

TT

محمد الحسن الحشود الكبيرة التي استقبلت جثمان الفنان الراحل سيد خليفة في مطار الخرطوم لدى وصوله من عمان ثم رافقته الى منزله بحي الرياض بالخرطوم ثم سارت بالسيارات والحافلات وراء نعشه في ذلك المساء المتأخر حتى مثواه الاخير في قريته الديبية خارج الــخرطوم، اظهرت مكاــنته لديهم.

وقد ضاق الميدان الفسيح الواقع امام منزله، والذي نصبت فيه الصيوانات، بأعداد المواطنين من جميع الاعمار والأجناس وبوجه خاص من الدول العربية الذين عرفوه وأحبوه مثلما فعل السودانيون.

الفنان الشهير سيد خليفة جاء رحيله في اعقاب عمليات جراحية كبيرة استغرقت نحو تسع ساعات، وبعد ثلاثة ايام من نجاح العمليات حدثت مضاعفات، الامر الذي ادى غيبوبة بعد ان تعطلت الكليتان والرئتان وبعدها فاضت روحه الى بارئها في عمان.

50 سنة.. عطاء مستمر الفنان الشهير سيد خليفة بدأ مشواره الفني مطلع الخمسينات في القاهرة حيث اتجه اليها في الاربعينات للدراسة في الأزهر ثم تحول الى دراسة الموسيقى في «معهد فؤاد الاول» آنذاك وتحول في وقت لاحق الى المعهد العالي للموسيقى العربية.

قصة نجاح المامبو السوداني سألته مرة عن قصة اغنية «المامبو ده سوداني» التي ادخلته عالم النجومية في مصر وقبل السودان، قال سيد خليفة: شاهدت فيلما ايطاليا كانت نجمته سلفانا مانجو وحصلت على الشريط الموسيقي للفيلم واستمعت اليه حتى اختمر في خاطري لحنا وايقاعا، وظلت هذه الايقاعات تموج في داخلي فلجأت الى الشاعر السوداني عبد المنعم عبد الحي، واسمعته الموسيقى الصاخبة للفيلم الايطالي ثم ارهاصات اللحن الذي اخذ يموج في داخلي، وتجاوب معي على الفور حيث صاغ كلمات «المامبو ده سوداني» واستطعت بالايقاعات الساخنة وسهولة الكلمات وحيويتها وسرعة التقاطها وتداولها ان احولها الى اغنية تتردد على كل الشفاه عربية كانت أم اوروبية.

علاقات طيبة لقد كان فنانو «اضواء المدينة» اشبه بالأسرة الواحدة، تعاطفا ومودة وتعاملا واحتراما، وقد ارتبطت في وقت لاحق بصداقة وطيدة مع الفنان عبد الحليم حافظ، وقد اشتركنا في احياء مناسبات، وقد جاملني بالمشاركة في حفل زواج ابراهيم المفتي وزير التجارة والتموين في اول حكومة وطنية برئاسة اسماعيل الأزهري عام 1954 والذي تم في القاهرة. لقد كان عبدالحليم حافظ فنانا رائعا وانسانا نبيلا ووفيا.

مواجهة جمهور السودان شهرتي الفنية في مصر سبقت شهرتي في السودان، وعندما عدت الى الخرطوم وأردت الغناء من اذاعة ام درمان، فان مدير الاذاعة السودانية آنذاك متولي عبد طلب اتباع اجراءات اجازة الاصوات الجديدة، وقد خضعت لها بدون تردد، ونجحت وهنأني مدير الاذاعة السودانية وبعدها سُمح لي بالغناء، ولكن كانت هناك خطوة اخرى هامة وهي الجمهور السوداني، فبدون انتزاع تصفيقه واعجابه فلا (شهادة اعتراف).

لقد كان الوقوف امام الجمهور السوداني هو اصعب امتحان، فالجمهور المصري رحب بي في القاهرة، لأنهم هنالك يحبون ويشجعون كل ما هو سوداني، وكنت آنذاك اول فنان سوداني يغني امامهم ويقدم اليهم لونا جديدا «المامبو ده سوداني» اما الجمهور السوداني الذي اعتاد على اصوات كبار الفنانين كأحمد المصطفى وابراهيم الكاشف وحسن عطية فهو لا يمنح اعجابه بسهولة، وقد لاحظ الفنان احمد المصطفى وهو صديقي وقريبي قلقي فأخذ في تشجيعي وتأكيد قناعته بأني املك الموهبة والصوت والحضور، ولا بد من الثبات امام الجمهور لتحقيق النجاح وقد كان ذلك والحمد لله.

وبعد ذلك اخذت في انتقاء القصائد والاغنيات التي لقيت قبولا واستحسانا داخل السودان وخارجه وبوجه خاص في الدول العربية، وكذلك الدول الافريقية وبوجه خاص في الصومال واثيوبيا واريتريا، ولدي حصيلة وافرة من الاغنيات والقصائد التي اخذ الجميع في حفظها وترديدها وطلبها من البرامج الاذاعية.

أخطر تجربة في احاديثه التي سجلتها مطلع التسعينات، نقل لي الفنان سيد خليفة، ان اخطر تجربة عاشها تمثلت في اصابته بعلة القلب. واجريت له العملية الضرورية في القاهرة عام 1989، ونجحت وتصدر نبأ نجاح العملية الاخبار الرئيسية في اذاعة أم درمان واذاعة القاهرة، وتلقيت آلاف الرسائل والبرقيات معبرة عن امنياتها ودعواتها لي بالشفاء، واحسست وقتها ولا ازال بأن محبة الناس نعمة الهبة لا توازيها أي نعمة اخرى، وان الدعوات الصادقة اخذت طريقها الى السماء، وسرعان ما انتظمت نبضات القلب واسترد عافيته ونبرات الحيوية والنشاط الذي عُرفت به في الستينات، وصوتي كما وصفوه «اصبح اعمق واعذب» واحمد الله واشكره.

ما بفارقكم كانت من الملاحظات التي كونها الكثيرون ان الفنان سيد خليفة اخذ يختم حفلات الافراح الاخيرة بأغنية محببة للجميع، وهم يرددونها معه، «أفارقكم.. ما بفارقكم.. اودعكم.. ما بودعكم» ويظل يكررها بصوت مشحون بالشجن والحزن. الحزن الذي لف بعد ذلك كل اسرة، ودخل كل بيت في السودان بعد رحيل الفنان سيد خليفة، اشهر وأحب فنان لكل ابناء السودان وعلى مدى خمسين سنة اظهر مكانته في وجدانهم وقلوبهم وذكرياتهم، لقد منحهم، أباً عن جد، من الابداع والفن والجمال ما يجعله جزءا محببا من ذكرياتهم الطيبة في الزمن الجميل.

لماذا انسحب فريد الأطرش وصباح وشادية وليلى مراد بسببه قال سيد خليفة، في صيف عام 1953، أعلن برنامج «اضواء المدينة» الذي كان يقدمه المذيع الشهير جلال معوض عن ليلة فنية كبرى في احتفالات الذكرى الاولى لثورة 23 يوليو 1952، وتقديم فقرات لفنانين عرب الى جانب فناني مصر المعروفين آنذاك، وقررت ان اقدم نفسي الى اللجنة الخاصة بهذه الاحتفالات لوضع أسمي ضمن المشاركين في الحفل، وكان من بين اعضائها الفنان الكبير يوسف وهبي، ووجيه اباظة، وقد سئلت ان كانت لي ألحان او اغنيات معروفة في السودان، فأبلغتهم بأني طالب في معهد الموسيقى بالقاهرة وأغني من اذاعة «ركن السودان» في اذاعة القاهرة وأوشكوا على ابعادي ولكن الفنان يوسف وهبي، وقد لاحظ ما اعتراني من حزن واحباط، قال لي: «الاشتراك في حفل كبير مثل هذا موش حاجة سهلة، وعلى العموم خليك جاهز ومستعد، وستكون فرصتك على المسرح سبع دقائق».

وسرعان ما استرجعت ثقتي وتفاؤلي من جديد، واخذت في مراجعة لحني «المامبو ده سوداني»، ولحن «ازيكم.. كيفكم.. انا لي زمان ما شفتكم» وانفقت كل ما املكه آنذاك وهو مبلغ 50 جنيها مصريا لجعل الفرقة المصاحبة لي تبدو بمظهر حسن ومقبول.

وعندما جاء دوري على المسرح، انسحب العديد من الفنانين المصريين الذين قدموا نجوم الغناء المصري آنذاك فريد الأطرش ومحمد عبد المطلب وصباح وشادية وليلى مراد، باعتباري فنانا ناشئا، وغير معروف، وعندما لاحظ الفنان الكبير يوسف وهبي موقفي سارع الى الوقوف في المسرح وقدمني بكلمات ما زلت احفظها عن ظهر قلب:

«نسمع الآن الى صوت من الجنوب، صوت من اعالي الوادي الاخضر، وهو المطرب السوداني سيد خليفة، ولا أريد ان اطلق عليه اي لقب وأترك الحكم لكم وحدكم».

وقدمت اولاً اغنيتي الجديدة «ازيكم.. كيفكم» وكان الجميع يتجهون بأبصارهم نحوي ولكن دون حماس، ولم يصفقوا او يبدو استحساناً، ولكني ظللت متماسكا وثابتا، ثم اخذت في غناء «المامبو ده سوداني» وشحنت كل صوتي في أدائها واخذت في تقريب المايكروفون الى الجمهور، وأخذ التجاوب يتصاعد وبحماس بالغ، وتجاوزت الزمن المحدد لي بكثير بناء على طلب الجمهور الذي اخذ يردد معي «المامبو ده سوداني» مع الايقاعات الساخنة، وحققت النجاح المنشود في تلك الليلة التاريخية بالنسبة لمسيرتي الفنية، وكان الاستاذ يوسف وهبي الاكثر سعادة بهذا النجاح وارتبطنا منذ ذلك الوقت وحتى وفاته بعلاقات تقدير واحترام متبادل، واصبحت بعد ذلك واحدا من اسماء «اضواء المدينة» في حفلاتها في القاهرة او في العواصم العربية.