نادية لطفي.. تشي غيفارا السينما العربية

الصعيدية الشقراء التي حولت بطلة رواية «لا أنام» إلى حقيقة لا تعرف النوم في حياتنا

TT

عندما يتردد اسمها في ذاكرتنا نتذكر على الفور المناضل الكوبي الشهير «تشي غيفارا» إنها تشبهه رغم الاختلاف، فهي خلطة إنسانية تجمع بين الفن والثقافة والسياسة من دون أن تعرف أيها تحترف وأيها تهوى، في النهاية تكتشف أنها تهوى الإنسانية وتحترفها بمهارة تجعل من ينظر لها يظل في حالة من الانجذاب، أسمعتنا الكثير من الألحان السينمائية لكنها تعزف في منطقة منفردة لا يستطيع أحد الدخول فيها ولم تتكرر حتى وقتنا هذا سواء في السينما المصرية أو العربية.

إنها «بولا محمد شفيق الشهيرة بنادية لطفي» والدها المحاسب الصعيدي «محمد شفيق» تحديدا من مدينة قنا إحدى مدن الصعيد المصري أما والدتها من مدينة الزقازيق إحدى مدن محافظة الشرقية التي تقع على خط الدلتا.

وقفت على مسرح المدرسة في العاشرة من عمرها لتواجه الجمهور لأول مرة وكانت آخر مرة في اعتقادها بسبب نسيانها حوار الرواية على الرغم من براعتها في أداء دورها في البروفات، جعلها هذا الموقف تعتقد أن التمثيل ليس بالهواية المناسبة وتنقلت بين العديد من الهوايات كان أولها الرسم الذي كانت تمارسه بصعوبة بسبب قيود والدها الصعيدي التي لم تستمر طويلا بسبب ابن الجيران الضابط البحري الذي سارع باختطافها فورا ووافقت على الاختطاف فقد كان الزواج بالنسبة لها الحياة الجديدة التي مارست فيه جميع هواياتها دون قيد أو شرط وتنقلت بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي والكتابة لتبحث عن الهواية التي تشبع روحها دون أدنى تفكير في الرجوع لهوايتها القديمة –التمثيل- لكن المصادفة لعبت دورا أساسيا في الرجوع لهوايتها القديمة بل واحترافها والحصول على بطولة مطلقة في أول وقوف لها أمام الكاميرا.

كانت بولا أو بومبي كما كان يحب والدها أن يناديها من بين المدعوين على حفل عيد الأسرة بمنزل صديق العائلة المنتج «جان خوري» وكان من بين المدعوين المنتج السينمائي الشهير «رمسيس نجيب» الذي رأى فيها بطلة فيلمه الجديد الذي كان بصدد تحضيره وقتها «سلطان» أمام وحش الشاشة الراحل فريد شوقي وكان ذلك عام 1958 وهو نفس العام الذي شهد الميلاد الفني لصديقة عمرها سندريلا الشاشة الراحلة سعاد حسني لتشهد السينما العربية ظهور جيل جديد من الفنانات يستطيع أداء مختلف الأدوار والألوان بنفس البراعة.

اقترح المنتج الراحل عدة أسماء لبولا لأن اسمها لم يكن مألوفا على أذن عشاق السينما وقتها وكان سميحة حمدي أو سميحة حسين من بين الأسماء المقترحة ولكن بولا المثقفة التي شجعتها والدتها «فاطمة» على القراءة منذ الصغر اختارت اسم «نادية لطفي» بطلة رواية لا أنام لمبدعها «إحسان عبد القدوس» ونال الاختيار إعجاب رمسيس نجيب ولكن أشعل غضب إحسان عبد القدوس الذي اعتبر استعارة اسم احدى بطلات رواياته من دون إذن منه غير مشروع وكانت النتيجة دعوى قضائية في المحكمة يطالب فيها بحقه الأدبي.

تزوجت نادية لطفي ثلاث مرات وكانت أول زيجة قبل بلوغها العشرين من عمرها من ابن الجيران الضابط البحري «عادل البشاري» ووالد ابنها الوحيد أحمد الذي تخرج من كلية التجارة ويعمل في مجال البنوك، أما الزواج الثاني من المهندس إبراهيم صادق شقيق د. حاتم صادق زوج السيدة منى ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وكان هذا في أوائل السبعينات ويعتبر أطول زواج وكان الزوج الثالث في حياة نادية لطفي رغم قصر مدة زواجهما هو شيخ مصوري مؤسسة دار الهلال الصحافية «محمد صبري».

عشقت نادية لطفي فنون المطبخ وأتقنتها بنفس طريقة اتقانها للسياسة فتاريخها النضالي يرجع لعام 1956 وقت العدوان الثلاثي على مصر وقبل دخولها عالم الفن.

نقلت مقر إقامتها إلى مستشفى القصر العيني أثناء حرب أكتوبر بين الجرحى لرعايتهم ولها دور مؤكد كفنانة عربية مثقفة في القضية الفلسطينية، حيث قضت اسبوعين في صفوف المقاومة الفلسطينية أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وكان الموت يطاردها في كل لحظة ولا تزال تحتفظ في مكتبتها الخاصة بـ 25 شريط فيديو لوقائع حقيقية عاشتها بنفسها وقت الحصار الإسرائيلي للمقاومة الفلسطينية ببيروت، كما قامت بممارسة هوايتها القديمة في التصوير وقامت بتسجيل 40 ساعة تصوير في القرى والنجوع المصرية لتجمع شهادات الأسرى المصريين في حربي 1956 و1967 حول الجرائم الإسرائيلية.

نادية لطفي الفنانة المتواضعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ولا أنسى صوت والدتي عندما أخبرتني بأن نادية لطفي تنتظر على الهاتف وأعطتني بعض أرقام أصدقائها في فلسطين حتى أساعد في دعمهم المعنوي على الأقل حسب قولها من خلال عملي الصحافي لأكتب عن قصصهم ليعرف الناس ما يعيشونه وهذا ما يؤكد اللقب الذي أطلقه عليها الراحل «كامل الشناوي» مواقف لطفي.

لم يقتصر فن نادية لطفي فقط على التمثيل في أفلامها الـ 70 على مدار 30 عاما حين قدمت آخر فيلم لها «الأب الشرعي» عام 1988، ولكنها حاولت في مجال الإنتاج وقامت بإنتاج فيلم تسجيلي باسم «دير سانت كاترين» في السبعينات وأنفقت 36 ألف جنيه مصري وهو يعتبر مبلغاً ضخماً في ذلك الوقت، وشعرت بالإحباط عندما عرض عليها التلفزيون المصري شراءه بألف جنيه فقط! كما قامت ببطولة مسرحية واحدة ومسلسل تلفزيوني واحد.

لم تنظر نادية لطفي إلى الفن من منظور ضيق ولا تهتم بالكم إنما بالكيف فدورها في فيلم الراحل شادي عبد السلام الشهير «المومياء» لم يتعد المشهدين وكانا صامتين بلا حوار ورغم ذلك تصدرت صورتها أفيشات الدعاية للفيلم بنظرتها الشهيرة التي تشبه في غموضها نظرة الموناليزا.

من آرائها الشهيرة عن أزمة السينما (أنه لا توجد أزمة سينما لأنه ببساطة لم تعد هناك سينما)، ولا يستغرب القارئ عندما يعرف آراءها اللاذعة فأدوارها التي عاشت فينا تؤكد تلك الآراء، «مادي» في النظارة السوداء كان دوراً جريئاً مليئاً بالتناقضات استطاعت نادية لطفي أداءها ببراعة السهل الممتنع ولم يمنعها مظهرها الأرستقراطي وجمالها الغربي من أداء أدوار بنت البلد التي اختلفت في كل فيلم فـ «ريري» في السمان والخريف تختلف عن «زوبة» في قصر الشوق الذي خضعت من أجله لتدريبات مكثفة على يد العالمة «نازلي» أحد عوالم شارع محمد علي لتعلمها كيف تتحدث وترقص وتمشي بطريقتهم.

من بين مواقفها الطريفة عندما عرض عليها دور «ريري» في فيلم السمان والخريف كانت تفكر في رفضه، لكن حاولت أن ترسم ملامح الشخصية أولا قبل إعطائها رداً بالقبول أو الرفض وأحضرت ملابس تناسب الشخصية وارتدتها وقامت بوضع ماكياج ظهرت به في ما بعد في الفيلم، وفي هذه الأثناء كانت في انتظار الأديب الراحل «أمين يوسف غراب» الذي استقبلته بنفسها ولم يتعرف اليها وقال لها بلهجه شديدة (فين ستك، انتي جديدة هنا ولا ايه، إزاي مش عرفاني) ولم تتمالك نادية لطفي نفسها من الضحك وعرفها ضيفها من ضحكتها المميزة التي لا تشبهها ضحكة أخرى في السينما المصرية وقبلت نادية لطفي القيام بدور «ريري» في فيلم السمان والخريف إحدى روائع السينما المصرية والعربية.

كانت نادية لطفي أول سيدة تدخل قشلاقات الجيش المصري بمنطقة العباسية لتتعلم فنون الفروسية والحرب لتستطيع أداء دورها الرائع في فيلم «صلاح الدين الأيوبي» رغم عدم اختلاطها بجيرانها في البناية التي تقطن بها بشارع النباتات سابقا وكامل الشناوي حاليا بحي جاردن سيتي الراقي إلا أن جميع البسطاء في الحي يعتبرون أصدقاءها فهي تستمتع بصداقة حارس البناية وأسرته وسائق التاكسي الذي تركب معه ولا تفارق يدها النوتة الشخصية التي تسجل بها ملاحظاتها ومواعيدها وتكتب أي كلمة تلقى إعجابا لديها.

هذه هي بولا أو بومبي الشهيرة بـ «نادية لطفي» التي تعيش بيننا كالموال البلدي رغم ملامحها الأرستقراطية التي نتمنى طلتها علينا مرة أخرى لنحتسي المزيد من فنها.