مهرجان كان تكثيف جرعة الأفلام السياسية.. وتأسيس إسرائيل الحاضر الأكبر

أصبح في سنواته الأخيرة مهرجان شخوص وأسماء بغض النظر عن النوعية

TT

منذ اللحظة التي أطلقت فيها صافرة انطلاق مهرجان «كان» السينمائي لهذا العام، ومنذ لحظته الأولى وهو يثير جدلا في كل لحظة من لحظاته ومع كل لوحة من لوحاته، ليكون الجدل سمة هذه الدورة ونكهتها المميزة. ولعل ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى تكثيف جرعة الأفلام ذات الموضوعات السياسية بشقيها المحلي والعالمي التي عرضت في برامج المهرجان المتعددة. فمن بين الأفلام 22 التي عرضت في المسابقة الرسمية كان هناك 7 أعمال على الأقل تناولت قضايا لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسياسات القائمة هنا وهناك. وكانت ذكرى النكبة وقيام إسرائيل الحاضر الأكبر في هذا المحفل العالمي الذي تزامن انطلاقه يوم الرابع عشر من الشهر الفائت بذكرى إعلان قيام إسرائيل عام 1948. إلا أن إدارة المهرجان كانت أكثر حكمة وحصافة وموضوعية في تعاملها مع هذه القضية الحساسة، وهو موقف ومنهج دائما ما التزم به «كان» طوال تاريخه. ثلاثة أعمال من ثلاثة أطراف مختلفة قامت على هدف واحد هو إدانة آلة القمع والتنكيل الإسرائيلية، وصرخة في وجه استمرار السياسات العدوانية للقيادات الإسرائيلية، وسلوكها سياسة متعنتة وعدائية. أول تلك الأعمال هو فيلم التحريك الإسرائيلي الوثائقي «الرقص مع بشير» Waltz with Bashir الذي فاجأ الجميع بموضوعيته دون أي تزلف أو محاولة لإرضاء أي طرف على حساب طرف، وصب جام غضبه وسخطه على الجميع دون محاباة أو تردد. وعلاوة على ذلك فقد كان فنيا بامتياز، تجاوزت فيه لغة الصورة وبلاغتها وتأثيرها أي مستويات تعبيرية أخرى في الفيلم بما في ذلك لغة الحوار وخطابيتها المباشرة في إدانتها. ويكاد يكون الفيلم هو الأبرز في المهرجان ومثل تجربة فنية فريدة في نوعها في الأفلام الوثائقية تتمثل في استخدامه التحريك طوال الفيلم عدا المشاهد الختامية التي أراد منها أن يعيد بها المشاهد إلى وعيه بعد أن كان طوال الفيلم في حالة هي أشبه بالتنويم المغناطيسي. الفيلمان الآخران احدهما فلسطيني والاخر لبناني، وكلاهما عرض خارج المسابقة الرسمية ضمن تظاهرة «نظرة ما»، إلا أن كلا منهما عانى من مشاكل فنية ولغوية كبيرة أسهمت في إضعاف قدرتيهما على إيصال الرسالة المستهدفة والتي لا يمكن أن تصل بمجرد التلقين المتواصل للمشاهد بحوار وتعليق مباشرين. الفلسطيني «ملح هذا البحر» كان متوترا وغاضبا ومباشرا منذ البداية، وهو من أول مشاهده إلى آخرها في حالة مواجهة مستمرة ودائمة وعلى وتيرة واحدة ضد شخصية واحدة وعلى نمط واحد، وفي صراع دائم في كل لحظة، مما افقد الفيلم حسه الدرامي وانتهى إلى كونه مجرد عرض لتجربة يوميات شديدة الخصوصية يغلب عليها الحماسة المفرطة من قبل مخرجته الشابة آن ماري جاسر. إنه يمثل في الواقع تجربة شخصية لها إلا إنها لم تستطع أن تتخلى عن بعض المواقف التي ليست لها أي قيمة درامية وتضعف من مستوى التوتر المفترض. أما فيلم «بدي شوف» اللبناني لجوانا حجي وخليل جريج فقد كان ورغم قصره (ساعة وربع) أطول مما يجب، وتم إقحام مشاهد كثيرة وطويلة جدا لم يكن لها أي ضرورة. لقد تحول الفيلم بها إلى فيلم أشبه بريبورتاج سياحي، وجولة ميدانية استطلاعية قامت بها الممثلة الفرنسية كاثرين دينوف على بيروت وجنوب لبنان. الفيلم يريد أن يدين إنما ليس واضحا فيما إذا كان يريد حقا الإدانة. ويريد أن يرينا مستوى الخراب والدمار لكننا لم نشاهد في الفيلم سوى بضعة مشاهد بما فيها بقايا من الحرب الأهلية اللبنانية، لتبقى حاجة «بدي شوف» لدى المشاهد مستمرة وغير مشبعة حتى بعد انتهاء الفيلم. وعلى كل حال فقد خرجت كل الأفلام الثلاثة وجعبتها خالية الوفاض من المهرجان، وعدم حصول «الرقص مع بشير» على أي جائزة كان مفاجأة حقيقية لا سيما انه كان احد ابرز المرشحين للفوز بالسعفة الذهبية، ولكن لجنة التحكيم كان لها رأي آخر، وربما أرادت أن تكون على الحياد وان لا تثير باختياراتها أي تحفظات. إلا أن فيلم السعفة «بين الجدران Entre les murs» لمخرجه الفرنسي لوران كان أثار بالفعل بعض التحفظات. الفيلم تناول قضية حيوية، تهم المواطن الأوروبي وكثيرا من شعوب دول العالم الأول، وله إسقاطات سياسية حساسة فيما يخص الجاليات المهاجرة في فرنسا وما تعانيه تلك الفئات من تفرقة عنصرية ونظرة دونية، والصراع بين المثل الليبرالية الدستورية العليا والخروقات التي توقدها النزعات القومية والشعوبية المتجذرة حتى النخاع في تلك المجتمعات. تمثل ذلك في فصل دراسي في إحدى مدارس ضواحي العاصمة باريس. الصورة عموما وأداء الممثلين خصوصا كان واقعيا بامتياز يظهر جهدا لا جدال فيه للوصول إلى هذا الحد من الواقعية، إلا انه وبالرغم من ذلك لم يقدم شيئا جديدا على المستوى الفني، وفوزه هو استمرار لتلك النزعة الواقعية التي ما فتئ مهرجان «كان» يحتفي بها ويدفع بها قدما دون إعطاء أهمية اكبر للأشكال السينمائية الأخرى. وبذلك، أصبحت الواقعية المفرطة هي بمثابة حجر الفيلسوف والكأس المقدسة التي يمكن بها لفت الانتباه في المهرجان أو ربما الفوز بجائزته الكبرى. وهو في الحقيقة امتداد للتوجه التقليدي للإدارة الحالية بقيادة جيل جاكوب الذي كان بإدارته للمهرجان لثلاثة عقود بين مدير فني ورئيس للمهرجان احد الدعائم الرئيسية لموجات الواقعية في فرنسا وغيرها من الموجات الأوروبية الأخرى والتي احدثت حينها ثورة في ثقافة الصورة السينمائية. لكن المهرجان بتصلبه هذا يساهم في تكريسه لمفهوم وحدودية النسق، فأصبح نعت أي فيلم بأنه فيلم «كان» ماركة مسجلة توحي بنوعية الفيلم وتوجهه، إضافة إلى أن المهرجان الذي كان يوما ما أبا روحيا لسينما المؤلف بمفهومها التقدمي والثوري والذاتي، أصبح في سنواته الأخيرة مهرجان شخوص وأسماء بغض النظر عن نوعيه ما يقدم، فما الذي يدعو المهرجان مرة بعد أخرى لاختيار كل فيلم للمخرج الأمريكي الشاب جيمس جراي ضمن المسابقة الرسمية، والذي فشلت كل أفلامه الثلاثة المتوالية التي عرضت ضمن المسابقة الرسمية في المهرجان في ان يحظى بحد أدنى من القبول. ومهما يكن من أمر فإنه بتجاوزنا عقبة الابن المدلل جيمس جراي فإن بقية الأعمال الأمريكية في دورة هذا العام جاءت في مستوى فني عال، ابتداء من فيلم المخرج المخضرم كلينت ايستوود «Changeling» الذي جاء اقل أفلامه الأخيرة من حيث قيمته الفنية إلا انه لم يخيب نظر الجموع الكثيرة التي انتظرت باكرا في صباح ماطر خارج مسرح لوميير الضخم على أمل مشاهدة الفيلم. وايستوود حاليا هو أفضل من يجيد توظيف الميلودراما بصورة سينمائية متنورة إلا انه هنا أفرط في استخدامها مما انعكس سلبا على أداء الممثلين أنفسهم. من جهة أخرى فقد قدم ستيفن سودبيرج في فيلمه الملحمي الطويل «CHE تشي» وفي جزئه الأول تحديدا واحدا من أفضل أفلامه على الإطلاق في انتقالات زمنية ومشاهد لم تخل من لقطات سينمائية بديعة وأداء براق ورائع من قبل الممثل اللاتيني الأصل بينيسيو ديل تورو الذي فاز بجائزة أفضل ممثل، ومن غير المستبعد أن يكون ابرز المنافسين في سباق الأوسكار نهاية هذا العام. وبعيدا عن السينما الأمريكية، كانت السينما الإيطالية هي الرابح الأكبر في هذا المهرجان، وكانت الجائزتان الأكثر أهمية بعد السعفة الذهبية هما من نصيبها، وذلك في فيلم «GOMORRA» لمخرجه ماتيو جارون الذي حاز الجائزة الكبرى وفيلم «IL DIVO» لباولو سورنتينو الفائز بجائزة لجنة التحكيم والذي في الواقع كان الأفضل والأكثر تميزا. لقد كان الفيلم يدور حول شخصية السياسي الإيطالي المخضرم جيليو اندروتي، وتحول من خلاله إلى طرق قضايا حساسة ودقيقة ومعقدة في الحياة السياسية الإيطالية إلا انه تناولها بصورة شائقة ورشيقة وظريفة في ذات الوقت. السينما التركية ممثلة بالمخرج التركي المتميز نوري بيليج قدمت احد أفضل أفلام هذه السنة في فيلم «ثلاثة قرود Three Monkeys» الذي فاز عنه بجائزة أفضل مخرج. لقد صنع نوري في فيلمه خلطة سينمائية رائعة امتزج فيها صفاء الصورة بعمق الشخصية ومتانة الموضوع مع التزامها برونق نمطية الحكاية التقليدية، وهو بهذا الفيلم يعيد للأسماء الكبيرة هيبتها وصورتها المعتادة بعدما بدأت تفقد مكانتها بأفلام باهتة وضعيفة، أساءت وتسيء إلى تاريخهم وتاريخ مهرجان عريق كما وتسيء إلى جمهور يتعطش ويتطلع دائما لمخرجاتهم وإبداعاتهم الفنية.

[email protected]