ذكرى.. الصوت الصادح الذي سبح ضد التيار

الفنانة التونسية رحلت وتركت مكانها خاليا

الفنانة ذكرى («الشرق الإوسط»)
TT

لو كان المرء يعرف ولو شيئا قليلا عن المصير الذي ينتظره، لغيّر في لحظات مسار حياته وتحكم في الغيب وهرب من مصيره المحتوم.. هذا الكلام يصح تماما عن الفنانة التونسية الراحلة ذكرى محمد عبد الله الدالي، المعروفة في الأوساط الفنية باسم ذكرى فحسب.. الكثير من الفنانين وربما الفنانات في تونس، كانوا يغبطونها على النجاح التدريجي الذي حققته، إذ أنها لم تندفع مباشرة إلى الأوساط القاهرية، بل سعت في البداية إلى ترسيخ قدمها على مستوى الساحة الفنية التونسية وصدحت بالكثير من الأغنيات الجميلة في بلدها تونس وشهد لها الجميع من نقاد وملحنين وشعراء بقوة الحنجرة وصفاء الصوت وصلابة الأداء، وهو ما رسخ قدميها في ميدان موسوم بصعوبة الاندماج في داخله وعسر المحافظة على نفس وتيرة الأداء الفني.. ذكرى كان صوتها رنانا تشوبه مسحة صغيرة من الحزن والأسى، عملت في كل لحظة على إخفائها، لكنها لم تنجح في ذلك، فأداؤها كان دائما يميل إلى الشجن، فطربت الأذان عندما شدت بأغنيات أم كلثوم التي كانت مفتاح دخولها الساحة الفنية التونسية، لكنها كذلك أدت الأغاني التونسية فأمتعت وأطربت بتلك المساحات الهائلة التي ميزت صوتها عن غيرها من الفنانات التونسيات.. ومع قوة الصوت وسلاسة الأداء، لم تكن الفنانة ذكرى محظوظة بالمرة في علاقاتها، خاصة مع الوسط الفني، هذا بالرغم من طابع المرح والطيبة وحسن الطوية التي عرفت بها في الأوساط الفنية..

ولدت ذكرى في 16 سبتمبر (أيلول) سنة 1966، في عائلة كثيرة الأفراد، وهي آخر أشقائها الثمانية، وهم على التوالي: توفيق، محسن، السيدة، سلوى، الحبيب، هاجر، كوثر، ووداد، وكانت تبعا لذلك أحب إخوتها إلى والديها.. والتحقت بمقاعد الدراسة بوادي الليل مسقط رأسها، ثم انتقلت إلى المدرسة الابتدائية بخزندار، وبذلك تكون قد اقتربت قليلا من وسط العاصمة، وواصلت دراستها الثانوية بنفس المنطقة إلى أن وصلت مستوى السابعة من التعليم الثانوي.. وغالبا ما يقع اكتشاف المواهب الجديدة في الغناء والتمثيل والفكاهة إبان سنوات الدراسة الثانوية، ولم تشذ ذكرى عن هذه القاعدة، بل إنها أبدت ميولا نحو الغناء إلى حد جعلها في نهاية المطاف تغادر مقاعد الدراسة لتنتظر الفرصة المواتية لتعلن عن إمكاناتها العريضة في باب الأداء الفني المميز.. فذكرى لم تكن مستسهلة للأمر، بل إنها تتمتع فعلا بموهبة قلّ وجودها في تلك الفترة وربما خلال السنوات التي تلتها.. وإذا كان الأب المعترف الأول بموهبة ابنته، التي كانت أقرب أبنائه إليه، فإن الأم كانت تخالفهم الرأي، معتبرة أن الدراسة لها الأولوية في كل الحالات ويجب ألا تفرط في دراستها من أجل مستقبل فني لا يزال في علم الغيب، وكأنها كانت تخاف على ابنتها من متاعب الوسط الفني ومشاكله التي لا تحصى ولا تعد.. لكن الوالدة غيّرت رأيها بعد وفاة الزوج لتدعم ابنتها وتساعدها على التعريف بموهبتها.. وجاءت سنة 1977، لتعلن الجديد.. فبانضمامها لمدة أربع سنوات في النشاط الكشفي، فإن ذلك مكنها من اطلاع كل المشاركين على ما تختزنه بنت الإحدى عشرة سنة من قدرة على إجادة الأغاني ذات الطبقات الصوتية العالية من دون عناء يذكر.. فأغنيات أم كلثوم وليلى مراد وعبد الحليم وفيروز، كانت تنساب من حنجرتها مثل الماء الزلال.. لكن مشاركة ذكرى سنة 1980 في المنوعة التلفزية «فن ومواهب»، الموجهة لاكتشاف المواهب الجديدة، هي التي أعطت التأشيرة الفعلية لدخول هذه الموهبة الاستثنائية إلى عالم الغناء.. إذ شاءت الصدف أن تلتقي ذكرى في منزل العائلة بـ«وادي الليل»، عز الدين العياشي، المشرف على تلك الحصة التلفزية، وكان عمرها آنذاك لا يتجاوز الخمس عشرة سنة، ولما غنت أمامه أغنية أم كلثوم «الرضا والنور»، دعاها للمشاركة في الحصة، وبالنظر لطاقاتها الصوتية المميزة فقد ألحقت مباشرة بكورال الفرقة الموسيقية لبرنامج «فن ومواهب»، وهو اعتراف ضمني بما تتمتع به من طاقات صوتية هائلة.. لكن ذكرى أعادت نفس أغنية أم كلثوم التي يبدو أنها مثلت مفتاح الحظ بالنسبة لها، على ركح المسرح الأثري بقرطاج في إطار الدور النهائي لبرنامج «فن ومواهب»، وتمكنت من الحصول على الجائزة الأولى متفوقة على جميع المشاركين والمشاركات.. وبذلك تكون ذكرى قد دخلت عالم الفن والطرب من بابه الكبير وظلت في انتظار من سيفتح طاقاتها الهائلة بلحن تقدم من خلاله ما يتوفر لديها من خامات صوتية قل وجودها في عالم الغناء اليوم.. فمنذ أن تعرف الوسط الفني على ذكرى، كان يميزها بقوة الصوت والقدرة الهائلة على أداء القصائد والموشحات والأغاني التي تتطلب إمكانات صوتية شاسعة.. وكانت الفنانة قد تحصلت على أول لحن خاص بها سنة 1983 بإمضاء الملحن حمادي بن عثمان بعنوان «يا هواي».. لكن انضمام ذكرى للفرقة الوطنية للموسيقى التي كونها عز الدين العياشي بقيادة فتحي زغندة، وتعرفها على الملحن عبد الرحمن العيادي، كان الإعلان الحقيقي عن دخول ذكرى عالم الفن والغناء.. وعرفت ذكرى أفضل فترة غنائية لها في تونس، فقد قدم لها عبد الرحمن العيادي عديد الألحان المميزة وتمكن خلال فترة وجيزة من تحقيق الإجماع حول قوة الأداء لدى ذكرى وصفاء الصوت ونقاوة الطبقات الصوتية.. وصدرت لها خلال عشر سنوات من الوجود الفني في تونس 30 أغنية، لحن لها عبد الرحمن العيادي 28 أغنية من مجموع تلك الأغاني.. وحققت بذلك ثنائيا ناجحا إلى جانب الشاعر الغنائي حسونة قسومة، وتحققت بذلك المعادلة الصعبة في إيجاد كلمات غنائية مميزة يلحنها ملحن يعرف جيدا الإمكانات الصوتية للفنانة المؤدية لتلك الكلمات، إلى جانب صوت قادر على أداء أصعب الألحان وأعسرها.. لذلك عرفت ذكرى خلال تلك الفترة شهرة قياسية وانتشارا غير مسبوق على المستوى المحلي وهو ما مهد لها في ما بعد لمزيد النجاح في العالم العربي بمجرد أن وطئت قدماها الأراضي الليبية في مرحلة أولى، والوسط الفني المصري في مرحلة ثانية.. فحين شدت ذكرى بصوتها القوي بأغنية «لمن يا هوى ستكون حياتي.. وكيف سأعرف ما هو آتي؟»، أو «حبيبي طمن فؤادي»، أو «سألت حبيبي لماذا الغياب.. فعز على شفتيه الجواب»، أو «إلى حضن أمي يحن فؤادي»، كانت ذكرى بذلك تعلن ميلاد فنانة متميزة لها من الخصوصيات الصوتية والفنية ما يجعلها خارج دائرة المنافسة مع بقية الفنانات التونسيات أو العربيات القادمات لإحياء الحفلات في مختلف المهرجانات.. إلا أن الملحن عبد الرحمن العيادي كان يبحث عن احتكار كامل لصوت ذكرى، فربما وجد في أدائه ذاك العصفور النادر الذي قل وجوده ومن الصعب حين نعثر عليه أن نطلق سراحه للحظات معدودات، بل قل إنه كتب عليه أن يبقى داخل القفص.. فهل تقدر فنانة موهوبة مثل ذكرى أن تعيش داخل قفص ولو كان من ذهب؟.

لقد حاولت ذكرى الخروج من الطوق في مناسبات عديدة، فغنت من ألحان عبد الكريم صحابو ومحمد الماجري، لكن ذلك كان من باب الاستثناءات القليلة التي لم تثنها عن المطالبة بالانفتاح على بقية الملحنين.. لكن الملحن عبد الرحمن العيادي كان متمسكا بالتفرد بصوت ذكرى التي بعد محاولات عديدة داست على قلبها وقررت الرحيل عن الملحن الذي اكتشفها.. وعن الأرض التي تؤويه.. فاختارت التوجه إلى ليبيا.

ولان صوت ذكرى لا يمكن لأي ملحن أن يفرط فيه، فإن وجودها في ليبيا جلب لها العديد من الألحان، فقد وطئت هذه الأرض وهي صوت معروف لا داعي لمزيد من اكتشافه أو تجربته.. ولئن كانت الفترة التي استقرت فيها بليبيا قصيرة نوعا ما، فإنها تعاملت مع كبار الملحنين والشعراء إذ لا يمكن أن تكون ذكرى حاضرة بالغياب بذلك الصوت القوي.. فكان على القائمة الفنان الليبي محمد حسن، والشعراء علي الكيلاني، عبد الله منصور، سلمان الترهوني، وغيرهم.. ولقيت الأعمال الفنية التي أدتها هناك رواجا كبيرا، فذكرى بصوتها المميز بإمكانها أداء أصعب الألحان وأعسرها.. كما أن النغمات البدوية المميزة للألحان الليبية تتماشى تماما مع صوتها.. وكان آخر البوم للراحلة في ليبيا يحمل عنوان «نفسي عزيزة»، وهو من كلمات الشاعر علي منصور.. وتحصلت ذكرى على جائزة أفضل أداء وكلمات في مهرجان شرم الشيخ بمصر.. لكن استقرار ذكرى بليبيا لم يدم طويلا، فقد كانت مثل الطائر المهاجر الذي لا يحلو له الاستقرار على أي غصن.. وكان التقاؤها بالملحن المصري هاني مهنا بمثابة الدفعة الجديدة نحو مزيد من التألق على المستوى العربي.. فقد التقاها أول مرة سنة 1987، وعاودا الالتقاء سنة 1992، ولئن كانت دعوة ذكرى إلى الاستقرار في القاهرة لم تجد أذانا صاغية في المرة الأولى، فإنها أتت أكلها في المرة الثانية.. وفي سنة 1994، قدم لها هاني مهنا ألبومها الأول تحت عنوان «وحياتي عندك»، وأردفه سنة 1995، بألبوم «أسهر مع سيرتك»، وكانت الفنانة ذكرى محظوظة بإصدارها لهذين الألبومين في وقت قياسي، إذ برهنت للجميع على ما يتوفر لديها من طاقات صوتية هائلة، وذلك بعد أن لقيا نجاحا عربيا باهرا.. وصدر لها سنة 1997، ألبوم «الأسامي»، الذي عرف نجاحا منقطع النظير، ففي العصر الذي طغت فيه النغمات السطحية والأداء «المفبرك» عبر الآلات، نجد ذكرى تؤدي أحلى الأغاني بأعذب الألحان وأجود الكلمات.. لكن ذكرى ستجد نفسها مرة جديدة عرضة للاحتكار من قِبل الملحن هاني مهنا، إذ انه كان يرفض تعاملها مع ملحنين آخرين.. لذلك لم تجد بدا من الخروج من الطوق والبحث عن حبل النجاة في عديد الألحان العربية والخليجية، إذ لم تكن ذكرى تؤمن بتلك الحدود الوهمية التي تفصل بين الأقطار العربية، ومكنها صوتها من التنقل بسلاسة بين مختلف الألحان والألوان.. وبمجرد طلاقها الفني من هاني مهنا، وجدت العروض الطريق إلى حنجرتها، فقدرتها على الأداء الاوبيرالي المتميز، ودرجة الإحساس القوية لديها، وقدرتها على أداء أصعب الألحان والتلوينات، جلبت انتباه كبار الملحنين في مصر أمثال صلاح الشرنوبي وحلمي بكر.. ولعل أداءها لملحمة «الحلم العربي» التي لحنها حلمي بكر وإبداعها في أدائها بإحساس مرهف وقوة صوتية رهيبة، جعلت النقاد يذهبون إلى وصفها بـ«سيلين ديون العرب» في مقارنة مع المغنية الكندية المعروفة..

لقد كانت ذكرى ذات صوت قادر على الغناء في كل المقامات واللهجات، خاصة الليبية والخليجية.. وتمكنت من إنتاج أربعة ألبومات خليجية.. كما أدت عديد «الديوهات» مع فنانين خليجيين معروفين من بينهم أبو بكر سالم في أغنية «مشغل التفكير»، ومحمد عبده في أغنية «حلمنا الوردي»، وقد اختارها من بين أنغام وسميرة سعيد وأحلام.. وعرفت ألبومات ذكرى نجاحا باهرا من بينها أغنية «علمني الحب»، التي حققت نجاحا كبيرا وهي من ألحان الفنان يحيى عمر وكلمات الشاعر السعودي الناصر، فقد أدتها بطرب حقيقي وكلمات حلوة وألحان راقية.

ومع إشعاعها وانتشار أغانيها في كل البلدان العربية، فإن ذكرى كابدت الصعاب وسبحت في معظم الأحيان ضد التيار، وكانت الصحافة تشن ضدها حربا شرسة لا أحد يدري مصدرها.. وربما كان نجاح اختياراتها الغنائية وإقبال أكبر الملحنين والشعراء عليها، وراء تلك الحملات المنظمة التي كانت تستهدفها.. لقد عاشت ذكرى بمشاعر مندفعة وعواطف تعطي بلا حساب «فكانت تعشق بجنون وتحب بلا حدود».. ولم تنفع شخصيتها المرحة ولا طيبة قلبها في حمايتها من المكائد والمؤامرات ومن سيل الشائعات.. لم تكن ذكرى لتهنأ بأي نجاح، فقد كانت مثل الطائر المسافر الذي يحط من دون احتساب المخاطر.. لقد عاشت غريبة.. وماتت غريبة.. وكانت دائما ضحية الغيرة وحب الامتلاك الذي بدأ مع الملحن عبد الرحمن العيادي، لينتقل إلى الملحن هاني مهنا، ليجد طريقه بعد ذلك إلى زوجها أيمن السويدي، الذي افرغ 16 طلقة من مسدس رشاش في جسدها قبل أن يقضي على مدير أعماله وزوجته وينتحر في مشهد مأساوي قلّ أن يحدث في الوسط الفني.. لتنتهي بذلك مسيرة فنية زاخرة بالرغم من قصرها النسبي، فذكرى لم يتجاوز عمرها عند وفاتها حدود 38 سنة.. وإمعانا في غربتها وهي خارج هذه الدنيا، فحين أراد أهلها أن تخرج جنازتها من بيتها الذي اقتنته قبل عامين من وفاتها بأحد الأحياء الراقية بتونس العاصمة، فإن المستأجر البلجيكي رفض هذا الاقتراح لتخرج الجنازة من بيت صديق لوالدها، إذ ان العائلة باعت منزل الأسرة بعد أن أصبح معظم أفرادها يعيشون في المهجر.. فحتى أمنية الخروج من بيت الأسرة بعد الموت، لم تتحقق. رحلت ذكرى وهي تنتظر مولودها الأول ليبقى حادث موتها لغزا بلا حل إلى حد الآن.. رحلت مع مولودها الصغير مثل أي طفل صغير يحب اللعب والدعابة وليست له حسابات في علاقاته.. بعد وفاتها قالت خادمتاها: «إنها كانت تحب لعب البلاي ستايشن».. لقد كانت طفلة صغيرة غرة تتعامل ببساطة الأطفال وتفتح أبواب بيتها لكل الناس.. هكذا هم الأطفال الكبار.