مايسترو عراقي يرتقي بالموسيقى العربية إلى مصاف العالمية من خلال «شرقيات»

الفنان محمد عثمان صديق لـ «الشرق الأوسط» : اعتمدت الآلات الشرقية التي لا تقل أهمية عن الغربية

محمد عثمان صديق («الشرق الأوسط»)
TT

انجز المؤلف الموسيقي والمايسترو العراقي محمد عثمان صديق سبعة مؤلفات موسيقية جمعها في اسطوانة مدمجة (سي دي) أطلق عليها اسم «شرقيات».

صديق يذهب بمؤلفاته هذه إلى منطقة صعبة للغاية ومهمة ومتميزة، من خلال الجمع بين الآلات الموسيقية العربية الشرقية مع الفرقة الاوركسترالية «السمفونية» في اطار واحد، والاهم من هذا كله، وما يجعل من تجربته أكثر أهمية للموسيقى العربية والكلاسيكية في آن واحد، هو انه جعل من الآلة الموسيقية الشرقية هي الاساس، بينما جاءت الفرقة الاوركسترالية بآلاتها الغربية الكلاسيكية مرافقة لها، فاتخذ من «الناي» و«العود» و«القانون»، كل على حدة، آلات رئيسية، وطوع لها الآلات الكلاسيكية الغربية.

محمد صديق، استاذ الموسيقى في معهد الملكة نور للموسيقى في عمان (دراسة جامعية)، حاصل على شهادة عليا من هنغاريا بالعزف والتأليف على البيانو، وقائد الفرقة السمفونية الأردنية، تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن تجربته الصعبة عبر الهاتف، قال «إن الهدف من هذه المؤلفات هو اعطاء الآلة الموسيقية الشرقية حقها وابراز دورها الحقيقي كآلة موسيقية متكاملة ويمكن لها ان تقف الى جانب الآلات الاوركسترالية الشرقية، فالناي لا يقل اهمية عن الفلوت، ان لم يكن اكثر اهمية منه، كذلك آلتا القانون والعود، فهي من الآلات ذات المساحات الصوتية الرائعة والجميلة التي تفتقر لها الكثير من الآلات الموسيقية الغربية الكلاسيكية، ويمكن ان تبرز جماليات مخفية كونها لم تكتشف بصورة كاملة ومن الصعب اكتشاف هذه الجماليات بقطعة او أكثر».

وأوضح صديق بلغة فيها الكثير من الاهتمام والانتماء للموسيقى العربية والشرقية، قائلا هناك خطأ فادح وشائع، وفكرة ظالمة لآلاتنا الموسيقية، تتلخص وللأسف بان الآلات الموسيقية الشرقية مهمتها مصاحبة آداء المطرب فقط، ومنفذة لمساحات لحنية ضيقة للغاية، وهذه الفكرة تسطح كثيرا من اهمية وعمق الآلة الموسيقية الشرقية».

ويستطرد في شرحه، قائلا «لو تأملنا تاريخ الآلات الموسيقية الغربية التي تدخل في بنية الفرقة الاوركسترالية، السمفونية، لاكتشفنا وببساطة انها كانت مجرد آلات موسيقية شعبية، مثل «الكمان» و«الفلوت» و«البوق» وغيرها من الآلات، وجاء من طورها واستخدمها في مؤلفات موسيقية جادة لتتحول على مر الزمن الى آلات مهمة في جسد الفرقة الاوركسترالية».

ويذهب صديق عميقا في فكرته، ويقول «حتى الموسيقى ذاتها، الكلاسيكية منها والمؤلفات السمفونية، كانت عبارة عن الحان شعبية وجاء عباقرة الموسيقى امثال بيتهوفن وجايكوفسكي وموتزارت واشتغلوا عليها بذهنية وذائقة متطورة ليحولوها الى موسيقى عالمية كلاسيكية تعزف ويستمع اليها في كل مكان. هنا انا تساءلت، ومنذ سنوات طويلة لماذا لا نتعامل مع موسيقانا وآلاتنا الموسيقية باحترام وبذائقة متطورة وافكار جديدة لنجعل منها موسيقى عالمية يمكن ايضا عزفها والاستماع اليها في كل مكان من العالم»؟.

وعن الآلات الموسيقية الشرقية التي ادخلها في مؤلفاته، يقول المايسترو صديق «لقد اعتمدت بشكل رئيسي على «الناي» و«العود» و«القانون»، فلهذه الآلات مساحات موسيقية عريضة، ولها قدرة على التعبير الجمالي، وفيها تقنيات متطورة وآداء عال جدا، لكنها تحتاج الى عازفين متطورين من حيث الاداء والتفكير والمهارة»، مشددا على ان «الهدف الرئيسي هو الابقاء على طابعها الشرقي لا ان يحدث العكس».

ويعد المايسترو محمد عثمان صديق واحداً من أفضل عازفي واساتذة آلة البيانو، ودراسته العليا كان موضوعها الموسيقى الغربية الكلاسيكية، غير أن المتابع له يجده مهتما، بل ان قضيته الرئيسية في الموسيقى هي العمل على الارتقاء بالموسيقى العربية الى مصاف الموسيقى العالمية، من خلال تأليفه لاكثر من 20 مقطوعة موسيقية، كذلك لتوزيعه لعدد كبير من الاغاني العربية، التي فازت معظمها في المهرجانات الموسيقية العربية، وعن سبب عدم اهتمامه بتأليف موسيقى غربية، يقول «انا اريد ان ارتقي بموسيقانا، ومهما الفت في الموسيقى الغربية فلن اضيف الكثير، لأن هناك غالبية من المؤلفين الغربيين يضعون مؤلفاتهم الغربية بروح غربية خالصة، وهم اكثر قدرة على التعبير عنها، لكنهم لا يستطيعون ان يؤلفوا قطعة موسيقية شرقية، لأن هذه مهمتنا ورسالتنا التي يجب ان نضطلع بها. نعم اختصاصي الموسيقى الغربية، والموسيقى الكلاسيكية منحتني وتمنحني الكثير، وانا مهتم بها كباحث وعازف واستاذ ومتذوق، ولكن من سيهتم بالموسيقى العربية. انا ومنذ بداياتي في الموسيقى كنت مهتما بالموسيقى العربية، وأجد فيها اكتشافات مهمة، وانا مؤمن بأني استطيع ان اضيف الكثير والجديد لهذه الموسيقى».

ويكشف المؤلف الذي تميز بغنى مفرداته الموسيقية وعمقها، عن ان «المستمع الغربي يهتم بالموسيقى الجادة اينما كان مصدرها وهويتها، والموسيقى العربية غنية، فوجدت مؤلفاتي صداها الواسع عندما عزفت في فرنسا والمانيا وايطاليا وتركيا، تماما مثلما اهتم بها المستمع العربي في مصر ولبنان والاردن وسورية، هذه الموسيقى موضع اهتمام المستمع العربي والغربي على حد سواء».

استوديو الموسيقى بالنسبة للمايسترو صديق هو مختبر تجري فيه اكتشافات جمالية على درجة عالية من الرقي، ويقول «في مقطوعة «دايالوك»، مثلا وضعت حوارا موسيقيا بين «الناي» و«الفلوت» الغربي، واكتشفت جمالية «الناي» التي تتفوق على «الفلوت» بالرغم من ان الآلتين تنتميان الى عائلة واحدة، وفي مقطوعة «رثائية» وظفت فيها ثلاث آلات موسيقية «جلو» عراقية تراثية بحتة وهي «فوق النخل»، لا اقول اني حولت «الجلو» إلى آلة شرقية، لكنني وظفت هذه الآلة للموسيقى العربية، وقد عزف هذه المقطوعة ثلاثة من اشهر عازفي «الجلو» الاميركان في مدينة بالتيمور الاميركية خلال مهرجان موسيقي عالمي، ثم مقطوعة «الالم» فهي افتتاحية اوركسترالية كاملة».

ولكن ما هو صدى مثل هذه المؤلفات عربيا؟، يقول المايسترو صديق «هناك مستمعون عرب يبحثون عن الموسيقى الجادة ويتابعونها، هذه المؤلفات قوبلت بالاعجاب اينما عزفت، خاصة في مهرجان الموسيقى الجادة في دار الاوبرا بمصر».

ويستطرد بشرحه «هناك من يرى ضرورة تقديم الموسيقى التراثية مثلما هي وبذات الآلات، انا لست ضد هذا الرأي، هذه وجهة نظر، قد تستمع لموسيقى تراثية تعجبك في حينها كشيء غريب، تماما مثلما تستمع لمقطوعة افريقية، ولكنك سرعان ما تنساها، ولكن هذه المؤلفات تبقى، ويمكن عزفها في أي مكان من العالم لانها مكتوبة، الموسيقى العربية اسيرة الارتجال والحفظ، وغالبية العازفين هم ممن يحفظون الحان وموسيقى الاغاني ولا يقرأونها مدونة، لكن مثل هذه المؤلفات تجعلهم يقرأون التنويط، وتحرك عقولهم وتخرجهم من الجمود والتحنيط الذي وضعوا فيه، ثم ان هذه المؤلفات تجعل العازف العربي يكتشف قدراته الادائية بصراحة».

وهنا يتساءل المايسترو صديق قائلا «استغرب لماذا لا نؤسس اوركسترا من الآلات الشرقية، كأن تضم مجموعة من الأعواد والقانون والنايات وغيرها، حينها سوف نحقق فتحا جديدا في الموسيقى العربية والشرقية».

سبع مقطوعات سمفونية هي عبارة عن حوارات ما بين آلات موسيقية شرقية وفرقة سمفونية أوركسترالية، ضمها (سي دي) موسيقي جديد للمؤلف الموسيقي العراقي محمد عثمان صديق.

الخبر قد لا يجتذب الكثير من القراء او الجمهور الذي ضيعته الفضائيات العربية وسط اسماء لا آخر لها من المطربات او المطربين من انصاف او ارباع المواهب، وضاعت ذائقته الموسيقية في طوفان من المعزوفات الهجينة التي تتراكب فيها الموسيقى الهندية على التركية والخليجية، وفي بعض الاحيان الافريقية.

لكن الموسيقى الجادة تفرض حضورها رغم المؤامرات الكبيرة المحاكة ضدها من قبل الفضائيات العربية. الموسيقى العربية الجادة قد ينحسر الاعلام عنها، وقد تدير الكاميرات ظهرها نحوها باتجاه مطربة شابة موهبتها الجسدية هي كل ما يجعلها معروفة، رغم ذلك يبقى جمهور الموسيقى الجادة، هو جمهور النخبة، وحسب المؤلف الموسيقي صديق «فان الموسيقى الجادة هي موسيقى النخبة منذ ان وجدت ومنذ القرون الوسطى، وما ينتعش اليوم هي موسيقى الاقدام وليس موسيقى الرؤوس، الموسيقى التي تحرك الاقدام للرقص وليس الرؤس للتفكير والاسئلة».

ويضيف صديق «ليس ذنب الجمهور انه لا يعرف جيدا صديق، عازف البيانو، والمايسترو، والمؤلف الموسيقي، واستاذ الموسيقى، وإنما ذنب الاعلام، وذنب الفضائيات، بالتأكيد». وهو ما دفع المايسترو عثمان لان ينتج (السي دي) على حسابه الخاص، يقول «لقد كلفني كثيرا، واستدنت الكثير من المال من اجل انجازه فانا لا اتخيل ان يهتم منتج عربي بالموسيقى الجادة، كما لا تهتم اية فضائية بهذه الموسيقى باستثناء فضائية عُمان التي تعرض يوميا الفرقة السمفونية العُمانية وهي تعزف مقطوعات كلاسيكية».

ويضيف قائلا «الموسيقى الجادة تحتاج الى تكاليف عالية، وتشكيل فرقة سمفونية موضوع مكلف للغاية، وكان العراق اول بلد عربي اسس فرقة سمفونية عام 1944، وقد تشرفت بقيادتها ثلاث سنوات، من 1990 وحتى 1993، والان الفرقة السمفونية العراقية تناضل من اجل بقائها في ظل ظروف مرعبة، وانا اسمي اعضاءها بالمناضلين الابطال كونهم مستمرين رغم هذه الظروف. هناك دول عربية اخرى تهتم بالموسيقى الجادة، مثل لبنان الذي تقدم فرقته عروضها مجانا، والاردن، ومصر التي تقيم كل عام مهرجانا للموسيقى الجادة، اذ سبق ان قدمت فيه مؤلفاتي كما قدت الفرقة السمفونية فيه ثلاث مرات، انا الان بحاجة لتسويق هذا الـ ( سي دي) لا اعرف كيف، انا مؤلف موسيقي ولست مسوقا، هذه ليست مهمتي».

ويؤكد المايسترو صديق ان «الموسيقى الجادة بحاجة الى رعاية مؤسسات، وهذه المؤسسات نادرة عربيا».