هل يمكن لساعتين ونصف الساعة أن تروي ستين عاماً من الجراح؟

«ليلة البيبي دول».. كانت تحتاج أكثر من فيلم سينمائي واحد

مشهد من فيلم «ليلة البيبي دول» («الشرق الاوسط»)
TT

من المعروف عن الأفلام الهوليودية الضخمة ذات الميزانيات الخيالية، أنها تتحدث عادة عن موضوع واحد ومحدد، أو عن حقبة زمنية بعينها مهما طالت أو قصرت، ففيلم مثل «ذهب مع الريح»، بالرغم من طوله الشديد، فأحداثه تقتصر على فترة الحرب الأهلية الأميركية فقط، ومع ذلك فهو واحد من أعظم كلاسيكيات السينما في العالم، لكن تخيل لو أراد كاتب سيناريو في هوليوود الآن، أن يتحدث في فيلم واحد عن الحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام و11 سبتمبر وحربي أفغانستان والعراق، بل ومناقشة فضائح كلينتون وسياسات بوش الخارجية وتوقعات ما سيقوم به الرئيس المقبل، فبالتأكيد لن تجد منتجاً أو مخرجاً واحداً يستمع إليه، لأنه من المستحيل أن يناقش فيلم واحد مهما بلغت مدته الزمنية كل تلك الحروب والأزمنة والأفكار معاً، وهذا هو بالضبط ما أراده السيناريست الراحل عبد الحي أديب أن يفعله في ملحمته الأخيرة (كما أرادها) «ليلة البيبي دول»، فهو أراد مناقشة مذابح الهولوكوست وأحداث 11 سبتمبر والحرب الأميركية على العراق وما يحدث في سجن أبو غريب، ومناقشة القضية الفلسطينية، ونشأة ومفهوم الإرهاب، وكل ذلك داخل عمل سينمائي واحد، تدور أحداثه في ليلة واحدة وفي قالب إنساني وكوميدي، وهو ما يعني استحالة تنفيذ هذا الأمر على أرض الواقع.

لذلك فإن مشكلة فيلم «ليلة البيبي دول» الرئيسية، أنه لم يجد صيغة أو شكلا سينمائيا يحقق به هدفه، لذلك خرجت النتيجة النهائية مشوشة في فيلم يعتمد أولاً وأخيراً على أسلوب الفلاش باك، وهو أسلوب يتطلب حساسية خاصة في التعامل معه، لكنه استخدم في الفيلم بداع ومن دون داع وفي كل مناسبة يمكن استخدامه فيها، حتى لو لم يضف قيمة حقيقية على الأحداث، وإذا كانت المشكلة الأولى هي عدم وجود صياغة سينمائية تناسب ما أراد الفيلم معالجته، فإن مشكلة الفيلم الثانية تمثلت في المفاهيم المغلوطة عن معنى صناعة فيلم عالمي الجودة، أي أنه فيلم يمكنه منافسة الأفلام مرتفعة القيمة والجودة الفنية في المهرجانات السينمائية الدولية، لكن تُرجم هذا المفهوم إلى ميزانية ضخمة أكبر مما يحتاجها الفيلم، ودعاية أكبر من مستوى الفيلم الفني، بالرغم من وجود أفلام حازت على السعفة الذهبية نفسها، ولم تتجاوز ميزانيتها ربع تكلفة فيلم «ليلة البيبي دول»، كما أنها لم تناقش أفكاراً عالمية تخص أحداث العالم بأكمله، وخذ مثالا على ذلك الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية في الدورة السابقة (4 أشهر 3 أسابيع ويومان)، وهو فيلم قادم من السينما الرومانية التي بلا تاريخ يذكر في المهرجانات، ويناقش الفيلم قضية الإجهاض في عصر تشاوتشيسكو، وبميزانية تقدر بستمائة ألف يورو فقط.

«ليلة البيبي دول» يحاول أن يجيب عن التساؤل «كيف يمكن أن يتحول شخص عادي إلى إرهابي»، عن طريق عرضه لشخصيتين أساسيتين في الفيلم، كل منهما مر بظروف متشابهة، لكن تحول أحدهم إلى إرهابي، بينما ظل الثاني يناهض الإرهاب، الأول هو «عوضين الأسيوطي» نور الشريف، الذي ذهب إلى بغداد للعمل هناك كمراسل صحافي، لكنه تعرض للاعتقال في سجن أبو غريب، وبعد أن أفقدته معاملة الجنود البشعة إنسانيته وآدميته، فقد رجولته أيضاً عندما تم بتر عضوه الذكري، ليس هذا فحسب، إنما فقد أيضاً في بغداد حبيبته «ليلى خوري» غادة عبد الرازق، التي ماتت في العراق تحت دبابة أميركية، وبهذا تكون تحطمت إنسانيته وكل آماله ولم يتبق له سوى الانتقام، لذا فهو يسعى إلى تفجير فندق يستضيف وفدا أميركيا كبيرا في ليلة رأس السنة. على الجانب الآخر، فإن «حسام» محمود عبد العزيز، يعمل خبيرا سياحيا في أميركا، وقد أصيب في حرب ما أفقدته قدرته على الإنجاب، لكن بعد العلاج لمدة عام كامل في أميركا، طمأنه الأطباء بشفائه التام، وينوي في ليلة رأس السنة أن يعود لزوجته «سميحة» (سولاف فواخرجي) في مصر. يسافر «حسام» مع الوفد الأميركي إلى مصر، ونعرف لاحقاً أنه شهد حادثة 11 سبتمبر أمام عينيه، وتعرض هناك لتحرش عنصري من قِبل بعض العنصريين كارهي العرب وكادوا أن يقتلوه، كما أن حسام فقد حبيبته الأولى أيضاً لأنها قتلت، لكن في فلسطين، لذلك فإن تجربة الرجلين تتشابه إلى حد كبير، مع ملاحظة أن ما تعرض له «عوضين» أقسى وأعنف بكثير، في حين أن «حسام» قد عولج وأصبح له زوجة جميلة في انتظاره.

لكن الرمزية التي يبحث عنها أديب في معنى فقدان الرجولة، أو فقدان الكرامة الإنسانية وحق الحرية والحياة، تضيع تماماً وسط كم المعاني والرموز والإيحاءات التي أراد إيصالها، هناك مشهد مثلاً تظهر فيه علا غانم لترقص قليلاً ثم ينقض عليها بعض الرجال وينتحر أحد الجنود، من دون أن نفهم معنى المشهد في السياق العام للفيلم، ومن دون أن نفهم أياً من كم المشاهد المتتالية التي تعتمد على الفلاش باك وحده، في ربط الشخصيات والأماكن والأحداث، والأهم ترتيب تسلسل المشكلة من الأحدث إلى الأقدم لمعرفة أصل نشأة الإرهاب، وهو الأسلوب الذي أشار إليه المخرج في أحد اللقاءات، لكن منطق الأحداث الذي يسير بمنهج التداعي الحر، وليس بمنهج التسلسل التراكمي الرابط للأحداث، قد جعل الفيلم يفقد توازن بنائه حتى نهاية الأحداث.

مشكلة أخرى في سيناريو الفيلم خاصة بإسقاط كم القضايا التي يتناولها الفيلم على عدد محدود من الشخصيات، لأن مدة الفيلم وخطوطه الرئيسية لم تكن لتستوعب عددا أكبر من الشخصيات، لذلك أصبحت جميعها شخصيات مجروحة بشكل أو بآخر، حتى لو كانت في سياق بعيد عن الفيلم، مثل شخصية «زغلول» سائق التاكسي أحمد مكي، أو الشخصيات التي يلعبها ضيوف الشرف محمود الجندي ودُرة، والمشكلة تعقدت أكثر عندما تولت بعض الشخصيات العديد من الأدوار حتى وإن كانت لا تحتمل ذلك أو كانت بعيدة عن المنطق، مثل أن يكون الجنرال العسكري «بيتر» جميل راتب، هو رئيس سجن أبو غريب، وفي ذات الوقت يأتي ضمن الوفد الأميركي لعقد صفقات ومشاريع داخل مصر، أو «شكري» جمال سليمان، عندما يصبح صديقا مشتركا لـ«عوضين» و«حسام»، ويتشتت بين ماضيه النضالي ورغبته في الانتقام، ووجهة نظر صديقه «حسام» التي جعلته يراجع ما كان ينوي فعله من مخطط إرهابي، وكل ذلك من أجل إحباط عملية تفجير الفندق في نهاية الفيلم، و«عزمي» عزت أبو عوف، وهو خال «حسام» وله مصالح مالية ضخمة مع الوفد الأميركي ومن ثم نكتشف لاحقاً أنه عضو مجلس شعب، من أجل إقحام قضية أخرى لا يحتملها الموقف وغالباً لن تلفت انتباه المشاهد، كل تلك الشخصيات تتقاطع في خيوط واهية وغير منطقية في كثير من الأحيان، وهناك عبء درامي متزايد مع كل شخصية جديدة تظهر حتى لو لم تقدم جديداً، خاصة شخصية «سارة» ليلى علوي، التي تظهر فقط من أجل تقديم رؤية متوازنة لنشأة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولكي نعرف من خلالها القصة الساذجة التي هربت بها أمها من الهولوكوست.

لكن حتى إذا تجاوزنا الخلل البنائي والدرامي لأساسات السيناريو من شخصيات وعلاقات وطريقة ربط الزمان بالمكان، فكيف يمكن تجاوز الاستسهال التنفيذي للعديد من المشاهد وبشكل بعيد تماماً عن المنطق، مثل مشهد ليلى خوري الذي تنهر فيه أحد الجنود كأنها تربي أحد التلاميذ في المدرسة، ويطأطئ هو رأسه من الخجل في صورة مضحكة للغاية، أو أن تتحدث ليلى علوي باللغة العربية الفصحى في أول ظهورها ثم تنطلق في الحديث بالعامية المصرية هي وجميل راتب، أو مشهد سير السيارات الثلاث وراء الحافلة السياحية في بداية الفيلم، وتنفيذه بـ«كروما» أو «خلفية متحركة» رديئة جداً تعود بنا لعصر السينما الصامتة، أو صراخ نيكول سابا وصديقها في الكنيسة أثناء تنفيذ الانتقام وكأننا في فيلم رسومي للأطفال، ناهيك عن عدم السيطرة على العديد من الأدوات الفنية وعلى أداء الممثلين، خاصة ليلى علوي وعزت أبو عوف.

إن عيوب فيلم «ليلة البيبي دول» أكبر من أن يتم إحصاؤها، لكن يبقى العيب الأساسي في الفيلم، عندما أراد اختزال كل ذلك التاريخ في فيلم واحد.. وهو المستحيل بعينه.

[email protected]