الحادي عشر من سبتمبر بين فيلمين

فيلم روائي وآخر وثائقي روعا أميركا

مشهدان من أفلام عن 11 سبتمبر («الشرق الاوسط»)
TT

عشية ذكرى أحداث الحادي عشر من سبتمبر عرضت شاشات التلفزة الأوروبية والأميركية والشاشات العربية أيضا فيلمين قيل انهما روعا أميركا، فيلما روائيا وآخر وثائقيا. الفيلم الروائي الذي أعاد صياغة الواقع ضمن مخيلة ذكية وغير أمينة، والفيلم الوثائقي الذي تعامل مع الواقع كما هو. فما هي الحقائق الملتبسة بين الفيلم الروائي والواقع؟ انها ذات الحقائق الملتبسة بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي! فأيهما كان أكثر تأثيرا على المتلقي؟

قدم لنا المخرج باول كرين غراس في فيلمه يونايتد 93 الروائي قصة ثلاثة شباب يخطفون إحدى الطائرات التي كان مقررا أن تقصف البيت الأبيض ولكنها انفجرت قبل أداء مهمتها بسبب الصراع داخل الطائرة وهجوم المسافرين على الخاطفين والحيلولة دون نجاح مهمتهم في الخطف والتفجير. ذكرني الفيلم بفيلم أميركي إسرائيلي آخر عن خطف طائرة متوجهة إلى عين تيبه. هي نفس فكرة البطل الأميركي القادر على خلق المعجزات لكي ينتصر في النهاية وهي نهايات كل أفلام هوليوود الكلاسيكية والمعاصرة.

نحن لم نكن نعرف حقيقة أحداث الحادي عشر من سبتمبر. كل الذي عرفناه ان إرهابيين إسلاميين أصوليين قاموا بتفجير مركز التجارة العالمي والبنتاغون واستهدفوا البيت الأبيض بعدد من الطائرات التي يتم اختطافها مرة واحدة وتنفذ تلك الجريمة التي روعت سكان الولايات المتحدة الأميركية. وبعد مرور حوالي سبع سنوات على تلك الجريمة بدأت السينما الوثائقية الأميركية ومحطات التلفزة التي أصبحت البديل المنتج للفيلم الوثائقي وفيلم الريبورتاج بكشف الكثير من الحقائق المتعلقة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر. القصة تدور عن الطائرة التي لم تحقق مهمتها. لقد اختفت الطائرة بانفجارها واختفت أسرارها وتفاصيل الخاطفين وهوياتهم. وحاول المؤلف وبالتالي المخرج أن يوحي لنا بأن المعلومات قد استقيت من المكالمات التي أجراها ركاب الطائرة المخطوفة في وداع عائلاتهم أو التصريح لهم بأرقام حساباتهم السرية أو أسرارهم المدفونة في خزاناتهم البيتية. فهل صرح أولا أحد المتحدثين عن الخاطفين ومواصفاتهم؟ ثم هل يسمح الخاطفون بحرية التنقل داخل الطائرة لمكالمة ذويهم من خلال هاتف الطائرة وإعطاء المعلومات عن الخطف والخاطفين. هذا أمر شبه مستحيل. ولكن الأهم في ما هو ملتبس في الواقع قد كشفه الفيلم الوثائقي الذي أجرى تحقيقات مسندة بالوثائق والتحليل التقني والمنطقي للأحداث ومنها ما يتعلق بهبوط بناية وانهيارها كاملة بعد نسف قاعدتها وطوابقها الأرضية وهو ما يتعذر طبعا على أية طائرة الوصول إلى القاعدة من القاعدة! ما يدلل وجود صواريخ انطلقت من الأرض متزامنة مع الطائرتين اللتين قصفتا مركز التجارة.

لقد عرض لنا الفيلم الوثائقي مشاهد إيضاحية بالأبعاد الثلاثة لما قدمه المحللون ومنهم موظفون في البنتاغون وخبراء طيران وإعلاميون، كشفوا الشرارات النازلة على شكل خط ناري في حافة البناية من الأعلى إلى الأسفل ما يدلل على وجود أسلاك لمتفجرات مزروعة مسبقا. وأنا هنا لست بصدد الحديث عن الأبعاد الجريمية والأهداف من وراء تلك الجريمة التي قادت وتقود إلى جرائم أكثر خطورة في التأريخ الإنساني فثمة دلائل باتت كثيرة ومنطقية تؤكد وجود قوة خلفية لهذا الحدث سخرت تلك العناصر الأصولية بطريقة مدهشة لتنفيذ هذه الجريمة. ولكن هذه الحقائق التي عرض الفيلم الوثائقي جانبا منها واختفت بعض الجوانب المهمة لأسباب معروفة، هذه التحليلات تثبت وحدها رداءة الفيلم الروائي على مستوى منطق السيناريو وبنائه مع قوة التنفيذ التي اعتمدت على أكثر من كاميرا محمولة على الكتف مع حركات سريعة للمصورين بذات إيقاع الحركة السريعة للخاطفين أو للمؤسسات الأمنية والعسكرية أو أبراج المراقبة في المطارات الأميركية. لقد اعتمد المخرج حركة الكاميرا المحمولة على أكتاف المصورين لتنتقل بما يشبه مصورا وجد نفسه فجأة أمام حريق هائل وعليه أن يلتقط أكثر التفاصيل إثارة فينتقل والكاميرا محمولة على كتفه من مشهد إلى آخر ومن مكان إلى آخر كلما سمع صوتا أو كلما رأت عينه المفتوحة لمحة من حدث مثير. بهذه الطريقة أوحى لنا المخرج وبطريقة مشوقة بأن فيلمه الروائي ذو سمة وثائقية حيث قوة الفيلم الوثائقي بواقعيته وكشفه للحقيقة الموضوعية دونما رتوش وهو ما أوحى به المخرج الذي نجح في مسألتين الأولى أن يشدنا باندهاش إلى الحدث والتوتر مركزا على الجوانب الإنسانية للمسافرين بمستوياتهم المتباينة وخوفهم الإنساني والعلاقة مع أهلهم ولحظة الموت التي تأتي دون سابق إنذار. هذه القيمة الفنية في حركة الكاميرا المحمولة على الكتف مع الحركة السريعة داخل مقر خبراء برج المراقبة والحركة السريعة داخل الطائرة بين المسافرين والخاطفين خلقت حالة من التعاطف مع المسافرين والكراهية الشديدة للخاطفين حتى إزاء ما كانوا يبسملون فيه ويتلون آيات من القرآن الكريم والدعاء الى الله سبحانه أن ينصرهم في مهمتهم فيما ثمة بشر أبرياء ولهم أطفال في بيوتهم وزوجات تنتظر لحظة اللقاء وثمة أسرار في الحياة الإنسانية سوف تذهب هباء. هذا هو أحد الأهداف التي يريد الفيلم إيصالها للعالم. أنا وعائلتي مسلمون تعاطفنا كثيرا وبشكل أكيد مع المسافرين وكرهنا بشكل أكيد عمليات الخطف ولابد وأن نكرهها. لكن أن تقف أمام انتماء الخاطفين وتسحب الكراهية نحو انتمائهم فإن المشاهد غير المسلم سوف يمتلئ غيظا ضد الإسلام وبالتالي يبارك وفق هذا الشعار أية هجمة عسكرية أو إعلامية ضد المسلمين.

إن أهداف الفيلم وهذه الكراهية التي نجح في تحقيقها تأتي متطابقة مع هدف التفجيرات في خلق الكراهية ضد الشعوب الاسلامية والدين الاسلامي مع أن الأصوليين لم يتركوا لغير الأصوليين فرصة الدفاع عن معتقداتهم. هنا يأتي دور الإعلام المرئي ومخاطره على المتلقي سيما ونحن اليوم في عالم الصحن الفضائي الذي عبر فوق رأس الرقيب وعبر فوق منارات الجوامع وقبابها ودخل البيوت دون استئذان فيما كان الفيلم السينمائي محدود المشاهدة في صالات مغلقة. لم يترك لنا العالم ازاء الصورة المتحركة فرصة الاعتراض، وليست الكتابة سوى حالة من حالات التحليل وإلقاء الضوء فهي لا تعني شيئا. الشيء الوحيد الذي يمكن للعالم الإسلامي أن يدركه هو أن الصورة المتحركة السينمائية والتلفزيونية هي حقيقة مهمة وخطيرة وعليهم استثمارها وليس إدانتها. عليهم الاستفادة منها وبرمجة فكرة الإعلام بطريقة فيها ذكاء، لا أن يجلس المتحدث في بلاتو القناة الفضائية ويستخدم وسائل العلم الحديثة التي تنقل الصورة في الفضاء لكي يدين العلم والمعرفة ويدعو إلى عالم الرفض لمنطق العلم والحداثة والمعاصرة المتمثل في الفضائيات وصالات السينما. ما يقال بأن الإنتاج السينمائي والتلفزيون هو إنتاج حر هو محض إفتراء فإن ثمة خطوطا حمراء لا يسمح الغرب بتجاوزها في كل أدوات التعبير الفنية فالإعلام صار يتحكم بشكل الثقافة ومضمونها في الغرب بعد أن أصبح الغرب موحدا أو متناغما في التوجه بعكس عالمنا الذي ينحو نحو الفرقة والتفكك.

إن الأسلوبية الوثائقية في هذا الفيلم الروائي التي لولاها لأصبح الفيلم باهتا وغير مؤثر ولبان زيف التزوير فيه، فيما الكاميرا المتحركة السريعة التي خلقت التوتر ساهمت في ذات الوقت في عدم إتاحة فرصة التدقيق بالمنطق والواقع. وهذا أيضا ساهم إلى حد كبير في تخفيض الميزانية التي بلغت خمسة عشر مليون دولار لفيلم طوله واحد وتسعون دقيقة حقق واردا إجماليا بلغ قرابة خمسة وسبعين مليون دولار في عروضه الأولى.

الفيلم الروائي هذا عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 ترك تأثيرا فاعلا في ذات المتلقي الغربي وحتى العربي، فوسائل التعبير الروائية لها تأثيراتها ومفردات لغتها التي تختلف تماما عن الفيلم الوثائقي مهما بلغت قوة الحقيقة في الفيلم الوثائقي ومهما ضعفت قوة الحقيقة في الفيلم الروائي، سيما وأن الكاتب والمخرج قد استخدما المخيلة بشكل كبير في كتابة وتنفيذ الفيلم لأن حقائق ما كان يدور في الطائرة المخطوفة قد ماتت مع الطائرة التي تفجرت في الجو.

سوف نبقى نحن متلقين ولا نستطيع أن نواجه قوة الإعلام وخاصة المرئي بقوة إعلام من طرفنا، لأن ثمة حقائق موضوعية في الإنتاج والتوزيع والهيمنة على الصورة وعلى البث سوف تبقى تحت قدرة أولئك الذين عرفوا قيمة الصورة المتحركة وتأثيرها وقرروا استثمارها وأوعزوا للمصارف بدعم المؤسسات السينمائية حتى تمكنوا وبقوة العلم من أن يلعبوا بأصابعهم بخيوط شبكة الاتصالات المرئية والمسموعة، وسنبقى نحن ننشئ الصحون الفضائية فوق بيوتنا لاستقبال ما يقدم لنا من وجبات في تلك الصحون! لقد قدمت كل الفضائيات الأوروبية تقريبا هذا الفيلم ليلة ذكرى أحداث سبتمبر وقدمناه نحن أيضا مترجما لمن لا يجيد اللغة الإنجليزية. هذا هو الواقع الذي لا يمكننا تجاوزه وأمامنا الواقع السياسي وهو أكبر مثال. فمن يهيمن على مركز الصورة يهيمن على عقول الناس وبالتالي يهيمن على العالم. نحن شعوب مستقبلة وليست مستقبلية ونحن شعوب مستهلكة وليست منتجة، ليس فقط في الدواء والغذاء والملبس بل في الثقافة والميديا وهما الأخطر وليس ثمة هروب من هذا الواقع. ولو أردنا على سبيل المثال أن ننتج فيلما مغايرا عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ونكشف الحقائق روائيا وأضفنا له من المخيلة وضمن المنطق واستخدمنا أكثر الأدوات الفنية في الانتاج من الكاميرات والإضاءة والصوت وجلبنا أكثر الممثلين قدرة في الأداء وأفضل كتاب السيناريو في كتابة النص الأدبي لمثل هكذا فيلم فأين يمكننا عرض مثل هذا الفيلم في الغرب. ليس في الغرب وحده بل أين يمكننا أن نعرض الفيلم في بلداننا وقد تم تهديم الكثير من صالات السينما وأما في التلفزة الفضائية في منطقة الشرق الأوسط (الوطن العربي سابقا) فإنها مشغولة بتقديم أغنية ياليتني من عرب شمر. أمشي وأدور على نورا.

لهذا السبب نجح فيلم يونايتد 93 ودحض ليس فقط الحقائق الموضوعية في أحداث الحادي عشر من سبتمبر بل تمكن من هزيمة الفيلم الوثائقي الذي لم يسجل رقما في شباك التذاكر ولا في شباك عدد المشاهدين للقنوات التي عرضته حيث كان الناس جميعهم وحتى الذين شاهدوا الفيلم سابقا، كانوا جميعا يتابعون مشدودين للفيلم الروائي دون أن يتمكنوا من مناقشة المنطق الذي زيف وجسد مشاهد لعب الخيال دورا في كتابتها وأدائها وكله خيال محسوب ليس الآن بل منذ عام 1889 عندما حرك توماس أديسون الصورة في الكنتوسكوب وطورها «الأخوان لومير» عام 1894 في تحريك الصورة بالفيلم المرن على الشاشة السينمائية.

* سينمائي عراقي مقيم في هولندا