المخرج الكردي رافين عساف يدوِّن سيرة حياة مدينة لا تُحب رائحة التفاح!

انتظر 20 سنة ليروي قصة حلبجة

مشهد من الفيلم
TT

أتاحت لنا الدورة الثانية لمهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي مشاهدة فيلم " رائحة التفاح " للمخرج العراقي الكردي رافين عسّاف والذي عُرض ضمن برنامج " مهرجان المهرجانات " في إحدى صالات المارينا مول في أبو ظبي. والمتابعون لتجربة المخرج رافين عساف يعرفون أنه قد أخرجَ عدداً من الأفلام الروائية والوثائقية المهمة لعل أبرزها الفيلم الوثائقي المعنون " ليسي شميدت: امرأة كردية " 1998، والفيلم الروائي الطويل " الأيام الصفراء " 2002. إضافة إلى فيلمه الروائي الجديد " رائحة التفاح " الذي أُنجز عام 2008. لا شك في أن هذا الفيلم قد أصبح، بمجرد الإعلان عن عرضه، محط اهتمام النقاد والصحفيين والمتابعين للشأن السينمائي الكردي في العراق. كما أنه الفيلم الروائي الوحيد الذي يُكرَّس بالكامل لقضية حلبجة. فالقصة الرئيسة والشخصيات وسياق الأحداث لا تخرج عن إطار مدينة حلبجة التي تعرضت للقصف بالغازات الكيماوية السامة، وراح ضحيتها نحو خمسة آلاف مواطن برئ إضافة إلى عدد كبير من الجرحى والمصابين الذين لا يزالون يعانون من تداعيات تلك الضربة الوحشية التي خلّفت آثاراً مروعة على سكنه هذه المدينة كما لم تنجُ منها الطيور والحيوانات تعيش في تلك المنطقة المنكوبة.

وعلى الرغم من تمحور الفيلم على مأساة حلبجة إلا أنه لم يسقط في فخ المباشرة والتسطيح. فلقد انتظر المخرج رافين عساف عشرين سنة بالتمام والكمال لكي يتناول هذه القضية المفجعة التي ألمّت بالشعب العراقي ليس في حلبجة حسب، وإنما في عدد غير قليل من القرى الكردية إضافة إلى مناطق محددة من أهوار الجنوب العراقي التي شهدت عدداً من أعمال التمرد والعصيان ضد السلطة المركزية في بغداد. وربما يأتي التركيز على حلبجة كونها أصبحت رمزاً للمأساة وأيقونة لفجيعة بضعة آلاف من العراقيين الذين لا يزالون يكرهون " رائحة التفاح " ولا يطيقون شم رائحته لأنها تذكرهم برائحة الغازات السامة التي ضربت حلبجة وبعض القرى العراقية. لقد عمل عساف في عدد من القنوت الإعلامية الأوروبية، وحصل من خلالها، ومن خلال حسه ونزوعه التوثيقيين على كمٍ كبير من المعلومات المهمة التي تتعلق بقضية حلبجة. كما كان مُطلعاً على رسائل الاعتذار التي بعثتها الحكومة الألمانية إلى رئيس حكومة إقليم كردستان تعتذر فيها عن توريد الغازات السامة التي استعملت في قصف حلبجة وبعض القرى العراقية الأخرى. والملاحظ أن القصة السينمائية التي كتبها المخرج نفسه، وهو ضالع في كتابة السيناريوهات، إنما تنطلق من فكرة أساسية واحدة مفادها أن البلد الذي زوّد النظام الاستبدادي السابق بالأسلحة الكيماوية، هو نفسه اليوم الذي يزود أهالي مدينة حلبجة المنكوبة بالأدوية والعقاقير الطبية. ويا للمفارقة عندما يأتي الخراب والدواء من جهة واحدة. لذلك يجب ألا يستغرب المُشاهد حينما يسمع أراء رزكار المتشددة والذي ينظر بعين الريبة الى الصيدلي يوسف الذي قدم من ألمانيا كي يوزع الأدوية على المرضى والمصابين بالغازات السامة، فهو لا يرى فيه إلا مواطناً ألمانياً مُشاركاً في الجريمة التي ارتكبت بحق أبناء شعبه البسطاء. لقد عاش يوسف " جسّد هذه الشخصية شوان عطّوف " نحو " 22 " عاماً في ألمانيا، وقد عاد بتفويض من شركة عقاقير طبية ألمانية. وخلال تواجده في مدينة حلبجة يقع في حب المعلمة " زارا " المصابة هي الأخرى بالغازات السامة وتحتاج إلى الأدوية التي جلبها يوسف من ألمانيا. غير أن الحب يبقى ضمن إطاره الأفلاطوني تماشياً مع القيم والعادات السائدة في المجتمع القروي. ولكي تأخذ القصة منحىً إشكاليا بدأ رزكار" لعب الدور شالاو جمال " وهو التلميذ الذكي يغار من قصة الحب التي نشأت بين يوسف وزارا، ربما لأنه كان يحبها في سره، ولم يستطع إعلان هذا الحب على الملأ. إضافة إلى الآراء المسبقة التي كان يحملها في ذهنة عن " عمالة " يوسف للألمان، وتماهيه مع الشخصية الألمانية المعتدية التي باعت الغازات السامة للنظام العراقي السابق، ثم استعملت ضد المواطنين البسطاء. وتعميقاً للحبكة الروائية يقوم رزكار باستدراج يوسف الى حافة المدينة حيث حفر له بئراً عميقة مموهة أوقعه فيها. ثم تبدأ لعبة المحاسبة والاقتصاص فقد نصَّب هذا الشاب الصغير سناً نفسه قاضياً يقتص، كيفما يشاء، من عدوه اللدود " المتماهي مع الألمان حسب افتراضه، والذي يُقيم علاقة حب " مُحرمة " من وجهة نظر رزكار الذي يحبها هو الآخر من دون أن يمتلك القدرة على هذا إعلان هذا الحب ". وعلى الرغم من أن مدة حبسه في هذه الحفرة قد طالت بعض الشيء، إلا أن هذا التطويل المتعمد الذي منح رزكاراً فرصة مناسبة لمقاصصته، كما أوصل زارا إلى ذروة حاجتها إلى الدواء الذي جُلب من ألمانيا، ولا يوجد من يوزعه إلا يوسف المحبوس في البئر العميقة. ولأن رزكاراً يحب زارا بشكل أو بآخر، ولا يريد لها أن تعاني كثيراً من آلام المرض، فيقرر في لحظة وجدٍ وتعاطف أن يُخلي سبيل يوسف، مُخرجاً إياه من البئر العميقة بعد أن التقط له عدداً من الصور الفوتوغرافية التي توثق لفترة سجنه. وما أن يتحرر يوسف حتى يتجه مباشرة إلى صيدليته كي يعالج زارا، ثم يقرر في نهاية المطاف أن يقفل راجعاً الى ألمانيا، البلد عاش فيه أكثر من عقدين من الزمان وتزوج فيه من امرأة ألمانية أنجبت له عدداً من الأطفال. أما قصة الحب الثانية فهي بين عمر " حمة علي خان " وزوجته " كولناز " فهو نمط من الحب الذي ينجح لأنه ظروفه صحية وقادر على الثبات أمام الظروف الصعبة التي تواجهه. فيما تنحو قصة الحب الثالثة بين " دانا " و " شيرين " الصغيرين سناً، منحى الأمل بمستقبل زاهر لأبناء الشعب الكردي. وهذا ما أراده المخرج رافين عساف الذي أنجز فيلماً سينمائياً محبوكاً مُعولاً على الشخصيات أولاً، ثم تأتي المعطيات الفنية الأخرى لاحقاً.

من المشاهد المؤثرة التي منحت الفيلم بُعداً جمالياً ومثيولوجياً في آنٍ معاً هو مشهد الشجرة الكبيرة التي عُقدت على أغصانها المتدلية قطعاً من القماش الملون الذي يشير الى الموتى أو الغائبين الذين لن يعودوا قط. هذه الشرائط الحمراء والزرقاء والصفراء والخضراء هي أيقونات مشفّرة للناس الذين تواروا في غفلة من أهلهم وذويهم وأحبتهم، تماماً مثلما اختفى في لمح البصر نحو خمسة آلاف مواطن من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ بعد أن سقطت قنابل الغازات السامة وجعلتهم محض ذكرى مؤلمة تتجدد كلما جدّد ذووهم الشرائط الملونة وعقدوها على أغصان الأشجار في مدينة حلبجة أو سواها من القرى الكردية المنكوبة. انتبه المخرج رافين عساف إلى أهمية الفرق الموسيقية التي تزدان بها مدارس حلبجة على وجه التحديد، هذه المدينة التي يراها مدينة دينية أكثر من أية مدينة أخرى في العالم، لذلك ركز على آلة الدف التي تُعزف في معظم أرجائها. وما المَشاهد الجميلة التي قدّمها المخرج ضمن سياق الفيلم إلا غيض من فيض. فالطريقة القادرية ترعرعت ونمت في هذه المدينة التي تحدق الى السماء بأعين مفتوحة متوسلة. ارتأى المخرج أيضاً أن يفيد من الموسيقى الشرق أوسطية لذلك أوكل هذه المهمة الى الفنان الألماني كريستوفر ديريكس والذي اختار بدوره موسيقات متنوعة عربية وفارسية وتركية وكردية مُذوِّباً إياها في متن الفيلم وتفاصيله الدقيقة. لا بد من الإشارة إلى أن مخرج الفيلم كان جريئاً في أطروحاته الفكرية التي تضمنت نقداً حاداً إلى الحزبين الكرديين اللذين يهيمنان على المشهد السياسي برمته. وثمة أحاديث لأحد عناصر البيشمركة الذي كان متذمراً جداً لأنه خدم في صفوف البيشمركة مدة سبع عشرة سنة لكنه خرج خالي الوفاض، بينما قام بعض المسؤولين في الحزبين الكرديين الكبيرين باستقدام أولادهم وأحفادهم من خارج العراق وعينوهم في مناصب مهمة لا تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية. ومع ذلك فإن المخرج عساف ليس متذمراً كل التذمر من حكومة الإقليم لأنها هي التي قدمت له جزءاً من الدعم المالي لهذا الفيلم، وأنها وعدته بدعم فيلمه القادم. وبصدد الحدة النقدية التي تخللت الفيلم، قال عساف على هامش مهرجان الشرق الأوسط بأنه " لم يأتِ بهذا الكلام من جيبه، وإنما اقتبسه من الشارع الكردي الذي لا يتردد في قول الحقيقة حتى وإن كانت قاسية بعض الشيء." لا يخلُ فيلم " رائحة التفاح " من بعض المشكلات الفنية والتقنية في الصوت والصورة. ويبدو أن الكاميرا التي استأجرها من تركيا وهو في طريقه إلى شمالي العراق لم تكن على وفق المقاسات الفنية التي يحلم بها رافين عساف. ومع ذلك فقد قدّم في نهاية المطاف فيلماً جيداً يحسب لمصلحة السينما الكردية التي تمر في طور التأسيس.