محمد باريز.. أشهر الحكواتيين المغاربة

جمع حكايات ألف ليلة وليلة وروايات بورخيس وأفلام هوليوود في ساحة جامع الفنا بمراكش

محمد باريز أشهر الحكواتيين يشد الانتباه بأدائه المميز («الشرق الأوسط»)
TT

يعتبر محمد باريز أحد أشهر الحكواتيين المغاربة، الذين عرفتهم ساحة جامع الفنا: شيخ حلقة، أسمر اللون بنظارات طبية ولهجة مراكشية.

يتميز باريز بسيرة ذاتية غريبة، هو الذي ظل يشكل، منذ أزيد من ثلاثة عقود، حلقته، طالباً من الصغار الجلوس، فيما يشد انتباه الكبار إلى حكي تؤثثه قصص ألف ليلة وليلة والأزلية، وأسماء ملوك وأمراء وأميرات، وقادة حروب، وسحرة وعفاريت وجوار، لا يمكنك أن تلتقيهم وتسمع عنهم دفعة واحدة إلا وأنت في حضرة الكتب التراثية وحلقات الحكي العجيبة.

يقول باريز في حديث لـ«الشرق الأوسط»: ليس «باريز» لقباً أطلقه المراكشيون على أشهر الحكواتيين في مغرب اليوم: «حين ذهب والدي، أيام الاستعمار الفرنسي، إلى مكتب الحالة المدنية لاستصدار وثيقة تعريفية ألصق به المسؤول الفرنسي اسماً عائلياً لم يكن سوى باريز.

ويتذكر باريز طفولته بكثير من الحنين، الذي يختصر تعب السنين، فيقول: «كانت البدايات، على درب احتراف مهنة الحكي، صعبة. كانت والدتي تحكي لي القصص الشعبية، في غياب وسائل الترفيه من راديو وتلفزيون، وذات يوم، وأنا ابن التاسعة من العمر، سأكتشف «سوق الربيع» بحي سيدي يوسف بن علي، حيث كان الحكواتي مولاي محمد الجابري يقص حكاية «جودار ولد الحاج عمر» على رواد حلقته. في مساء ذلك اليوم، لم أقبل على حكايات والدتي، على غير عادتي. كان هناك طيف الجابري وطريقته المشوقة في الحكي. حدث هذا عام 1969».

وبداية من اليوم الموالي، سيتغيب الطفل محمد عن المدرسة ليحضر حلقة الحكي. وحين سيتخلف الجابري عن حلقته، سيأخذ مكانه. ويقول باريز متذكرا: « كنت صغيراً، ورغم ذلك تملكتني جرأة غريبة جعلتني أروي الحكايات التي حفظتها عن الشيخ، في الأيام السابقة. لم يكن هدفي مادياً. كنت مأخوذاً بالحكي. وشاءت الصدف أن تمر إحدى جاراتنا بالقرب من الحلقة، فنقلت ما شاهدته إلى والدتي، التي أخبرت والدي. وفي المساء أكلت علقة ساخنة».

بعد ذلك، سيقصد ساحة جامع الفنا، حيث سيعيش مرحلة من الكر والفر مع والده، الذي كان مصراً على أن يتابع ابنه مساره الدراسي.

ويستعيد باريز هذه المرحلة الأساسية من حياته، فيقول:«قررت الهرب من المنزل ومغادرة مراكش. سرقت من والدي مبلغ 30 درهماً (أربعة دولارات). وبالصدفة أخذت وجهة بني ملال (وسط المغرب) راجلاً. وفي أحد الأسواق الشعبية عرض علي شيخ أن أشتغل راعي غنم. ولأنه لم يكن يتصرف معي بشكل جيد قررت تركه. وفي نواحي مدينة الفقيه بن صالح، بقرية تسمى «أولاد اركيعة»، اشتغلت راعي غنم، أيضاً. ولأن مشغلي الجديد ظل يقدم لي الشاي والخبز في كل الوجبات، فضلت تركه هو الآخر، متوجها إلى بلدة «الفقيه بن صالح»، حيث صادفت قاصاً يروي حكاياته بسوق تسمى «الجوطية»، وأذكر أن اسمه كان «عمر النخلة».

في بلدة الفقيه بن صالح، سيتذكر الحكايات العشرين، التي حفظها، عن الجابري. وفي الغد، سيقص على رواد حلقته الصغيرة حكاية «بدر بسيم وجوهرة بنت الملك السمنبل»، التي سيثير بها إعجاب من تابعه، غير أنه سيحكيها من دون توقف، كما لم يطلب مقابلا. وحين سيتفرق رواد الحلقة، وحده شيخ بقي جالساً، هناك. قال لي «إنني كنت رائعاً، ونصحني بأن أطلب مقابلا من رواد حلقتي. ثم علمني متى أتوقف أو أواصل الحكي. وفي ختام حديثه تنبأ لي بمستقبل كبير». ويتذكر باريز الذي سيكسب في اليوم الموالي، 75 ريالا، وفي اليوم الثالث 150 ريالا، وفي اليوم الرابع 500، ثم 700، في باقي الأيام. وسيقضي باريز ببلدة الفقيه بن صالح ثمانية أشهر، صار خلالها محبوبا بين ناس المدينة.

وذات يوم، سيقرر العودة إلى مراكش، حيث دخل منزل العائلة بشكل فاجأ الوالدة والوالد، الذي اقترح عليه العودة إلى المدرسة. يقول: «قلت لوالدي إنني اخترت سبيل الحلقة، فما كان منه إلا أن وافق، شرط أن أساهم في مصروف البيت، حيث طلب مني أن أساهم بمبلغ 50 ريالا في اليوم، وهو الشرط الذي وافقت عليه».

وسيدخل باريز إلى ساحة جامع الفنا كحكواتي وليس كمتفرج، هذه المرة. وكان عليه أن يواجه أحد عشر راويا، سيقاسمهم رواد الساحة، ولذلك كان طبيعيا أن يتعرض للمضايقات من طرف بعض رجال السلطة بتحريض من الحكواتيين الآخرين، وهو الشيء الذي جعله بين نارين: نار والده، ونار الحكواتيين، الذين كان عليه أن يصارعهم لسنوات، قبل أن يعترفوا به بينهم.

وعلى مدى أزيد من ثلاثة عقود، سيظل الحكي رأسمال محمد باريز. وهو لا ينسى، بعد كل هذه السنوات، أن يتحدث عن فضل اليونسكو والكاتب الإسباني خوان غويتصولو في المحافظة على الساحة تراثاً شفوياً إنسانياً.

ويشارك باريز في حفلات ولقاءات طلب منه أن يحكي في بعضها كتابات خورخي لويس بورخيس، كما ستتم دعوته إلى تولوز، ثم بوردو وغرناطة وباريس، بمناسبة مهرجان الرواة، عام 2000، حيث سيكون عليه أن يتحدث للباريسيين عن حكاية اسمه العائلي، وعلاقته بمدينة الأنوار، قبل متعة حكايات ألف ليلة وليلة.

ويتذكر باريز تاريخ جامع الفنا، مع حكواتيين سابقين، أمثال «الصاروخ» و«دكتور الحشرات» و«فليفلة» و«فقيه العيالات» و«باقشيش» و«الشيخ بلعيد»، فيقول: «كانت الساحة صاخبة بالفرجة. كانت تغذي الفكر والعقل، أما اليوم فصار النصب والاحتيال موضة، ولولا اليونسكو لمات الحكي، في وقت لم تعد له فيه قيمة أو هيبة».

ويرى باريز أن القيمة المعنوية للساحة يتم التفريط فيها، شيئاً فشيئاً، ولذلك يدعو إلى رد الاعتبار للفرجة ودعم الحكواتيين، وينادي بتكوين الخلف، عبر إيجاد مدرسة لتعليم الصغار فنون الحلقة والحكي، مشيراً إلى أن «الفرجة هي الأساس الذي استمدت منه الساحة صيتها وسمعتها، وحين سيتوارى خمسة أو ستة حكواتيين سينقرض فن الحلقة، وآنذاك ستنتهي ساحة جامع الفنا مطعماً كبيراً للأكل لا ساحة للفرجة، صنفتها اليونسكو تراثاً شفوياً إنسانيا».

وقبل أيام، دُعي باريز لتنشيط الدورة الثامنة للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، ولذلك ترك، مؤقتاً، حلقة الحكي بساحة جامع الفنا، ليمنح المهرجان السينمائي لمسة أصيلة، عبر حكي، قال في بعضه إن «السينما هي السلوى، هي الواقع في الخيال»، كما سيطوع قصص ستة أفلام مغربية وعالمية إلى حكي تقليدي ممتع، من دون أن يكون رواد حلقته في حاجة إلى تذاكر أو قاعة أو شاشة.

وفي تلك الأثناء، كان ابنه عبد الغفور، ابن الرابعة عشرة عاماً، يقص على رواد ساحة جامع الفنا حكايات مشوقة، معوضاً والده، ومتلمساً أولى خطواته على درب فن الحلقة، الذي سار فيه والده قبل 38 عاماً.