مفاجآت.. وتحديات كبيرة

الدورة الخامسة لمهرجان دبي السينمائي الدولي

ملصق مهرجان دبي
TT

في دورتَيه الأولى والثانية، كان مهرجان دبي السينمائي الدولي مجموعة من الأفلام القادمة من هنا وهناك، ونجوماً، واحتفالياتٍ، وأضواءً. ومنذ أن تولى السينمائي الإماراتي مسعود أمر الله مهمة الإدارة الفنية، وهو يقدم لنا في كل دورة مفاجآتٍ، وتحدياتٍ جديدة، تُضفي على المهرجان خصوصيته، وتميزه عن مهرجانات المنطقة. كانت الدورة الثالثة بمثابة التحول الإيجابي الكبير مع تأسيس «مسابقة المهر للإبداع السينمائي العربي»، وتشمل الأفلام الروائية الطويلة، والوثائقية، والقصيرة. وعلى الرغم من خصوبة أفكاره، وغزارة طموحاته، وسرعته في تحقيقها، فإنه يتمهل في إنجاز بعض الأمور الشكلية، وأولها استجداء الصبغة الدولية (مع أن المهرجان دولي بامتياز)، وهو بهذا يتخيّر نهجًا مخالفًا لمعظم المهرجانات العربية - ما عدا أيام قرطاج السينمائية في تونس - التي «تناضل» لإرضاء الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام في فرنسا (FIAPF) للحصول على اعترافٍ رسمي تتفاخر به، مع أن أصغر مهرجان في نفس بلد مقر الاتحاد، يمتلك الحق بإلصاق الصفة الدولية في عنوانه، ولن يمنعه أحد، لا الاتحاد نفسه، ولا أي شخص، أو مؤسّسة.

كثرة عدد المهرجانات في أوروبا، وفرنسا خصوصًا، جعلتها تدرك أهمية تفردها، وتخصصها، وضرورة الكشف - أو إعادة الكشف - عن سينما، أو سينمات معروفة، أو مجهولة، بعيدة، أو قريبة: السينما الأسيوية، والأفريقية، وأميركا اللاتينية، والتخصص أكثر فأكثر. فأصبح هناك مهرجانات للسينما العربية، والصينية، والهندية، والروسية، والإسبانية.

في دورتيه الأولى والثانية، أصابت مهرجان دبي عدوى تقليد المهرجانات الكبرى، ومع دورته الثالثة، بدأ يؤسّس خصوصيته وتميزه، باستحداث «مسابقة المهر للإبداع السينمائي العربي»، ومنذ ذلك التاريخ تغيرت وجهات النظر حول المهرجان، وأصبح محطّ أنظار الوسط السينمائي العربي، والعالمي، والمكان الأكثر جديةً لمشاهدة أفضل إنتاج السينمائيين العرب المنتشرين في كل أنحاء العالم، وملتقى للجدل والتواصل، وورشة عمل متواصلة.

وخبت أضواء المهرجانات العربية الأخرى المخصصة للسينما العربية - مع اختفاء أهمّها، بينالي السينما العربية في باريس - أو التي تتضمّن برمجتها مسابقة للأفلام العربية. ولم تنضب أفكار مسعود أمر الله، أو تتوقف، عند ذلك النجاح، فلم يتأخر كثيرًا كي يُثري الدورة الخامسة (11 - 18ديسمبر 2008) بإضافةٍ لافتة «مسابقة المهر للإبداع السينمائي الأسيوي، والأفريقي»، وتشمل الأفلام الروائية الطويلة، والوثائقية، والقصيرة. هذه المسابقة «المزدوجة» قابلة للنقاش، فالسينما الأسيوية قوية جدًّا، راسخة، ومتطورة، وتعتمد على إمكانياتها المالية، وهي مختلفة تمامًا، أشكالا ومضامين، عن السينما الأفريقية، ونمط إنتاجها، وتمويلها المماثل للسينمات المغربية. وبينما فرضت السينما الأسيوية نفسها في الأسواق الدولية، تعثرت خطوات السينما الأفريقية، ولم تتمكن من الظهور الحقيقي، وجذب الجمهور إليها، واكتفت بأسواقها الداخلية، والعروض المحدودة في صالات الفن، والتجربة الأوروبية. ولكن، كيف نعامل السينما العربية/ الأفريقية جغرافيًّا؟ هل يُدرجها المهرجان في «المسابقة العربية»، أم «الأفريقية؟

وبالمثل، كيف نُعامل السينما العربية/ الأسيوية جغرافيًّا؟ هل يدرجها المهرجان في «المسابقة العربية»، أم «المسابقة الأسيوية»؟ أعتقد بأن المدير الفني مسعود أمر الله يتعامل مع المسابقتين انطلاقًا من أصول المخرج، لا من جنسيته الحالية. مخرج من أصول عربية سوف يُدرَج فيلمه في «المسابقة العربية»، بغضّ النظر عن مكان إقامته، في فرنسا، أو الولايات المتحدة، أو السنغال. ومخرج من أصول أفريقية/ أسيوية سوف يُدرَج فيلمه في «المسابقة الأسيوية/ الأفريقية»، بغضّ النظر عن مكان إقامته، في البرازيل، كندا، أو المملكة المتحدة. هذا الاختيار يتجاهل تمامًا جنسية مصادر التمويل، وبهذا يصبح الفيلم الروائي القصير «الطريق إلى الشمال» لمخرجه الفرنسي/ اللبناني كارلوس شاهين، فيلمًا «لبنانيًّا»، من وجهة نظر مهرجان دبي، بينما تعتبره السلطات السينمائية الفرنسية «المركز الوطني للسينما»، فيلمًا «فرنسيًّا» خالصًا، فقد تم إنتاجه عمليًّا من قِبل مواطن فرنسي، وقانونيًّا من طرف شركة إنتاج فرنسية، وبتمويل صناديق دعم وطنية ومحلية، تغذيها أموال الفرنسيين.

عملية الاختطاف هذه هي التي دفعت بعض المهرجانات العربية في أوروبا إلى اعتبار الأفلام المنتَجة بتمويل إسرائيلي فلسطينية، بحكم أصول مخرجيها، وبغضّ النظر عن مكان إقامتهم، أو جنسيتهم الحالية، إسرائيلية أو مزدوجة.

ويبدو أن هذه الإشكالية لن تجد حلا لها، وقد فرضت نفسها كأمر واقع. والغريب أن المهرجانات العربية وحدها هي التي تطبقها، لأنها لو استبعدت هذه الأفلام، فلن يتبقى لها ما تختاره من الإنتاج العربي الوطني التمويل (أو المشترك).

بالنسبة إليّ، الإشكالية محسومة منذ زمن، وجنسية الفيلم تتبع مصادر التمويل المنفردة، أو المتعددة. ولا أجد أيّ مبرر لإقحام الجنسية العراقية على الفيلم الفرنسي/ الألماني «فجر العالم»، لمخرجه عباس فاضل، الفرنسي الجنسية، العراقي الأصل، الذي ترك بلده منذ أكثر من ربع قرن، وتَخيّر العيش في بلد آخر، وسوف يكمل حياته فيه، ولا تهمّه السينما العراقية من قريبٍ أو بعيد، ولكنه سوف يستغل تساهل المهرجانات العربية التي تعتبر فيلمه عراقيًّا، وسوف يبتهج أكثر لو حصل على جائزة. بينما يتحسر المخرج العربي القابع في بلده، والذي لم تتوفر له مصادر تمويل مماثلة.

بشكل عامّ، تنهج المهرجانات العربية طريقًا معاكسًا للتوجهات الفكرية لمعظم المخرجين العرب المهاجرين من أوطانهم، أو مواطني الدول الأجنبية من أصول عربية. ومضمون فيلم «فرنسية» من إنتاج عام 2008 لمخرجته المغربية سعاد البوهاتي، أفضل مثال على ذلك، فالشخصية الرئيسية «صوفيا» التي وُلدت في فرنسا، عاشت طفولتها في المدينة التي كانت تقطن فيها مع عائلتها، ولكن أباها يحنّ إلى العودة إلى بلده المغرب، لتجد صوفيا نفسها تعمل في الحقل. وعلى الرغم من الحياة الهادئة الجميلة التي تعيشها في بلد عائلتها، كانت تنتظر بلهفة حصولها على شهادة البكالوريا كي تعود إلى فرنسا، لأنها - ببساطة - تعتبر نفسها فرنسية. وتفعل عائلتها كل ما تستطيع لجذبها إلى أرض أجدادها، دون فائدة.

والأمثلة كثيرة عن أفلام تتطرق موضوعاتها إلى فكرة العودة الاختيارية، أو القسرية، وفي النهاية تختار الشخصيات، منفردةً أو مجتمعةً، البلد الأوروبي الذي جاءت منه، ومنها الفيلم الروائي الطويل «هنا، ولهيه/ هنا، وهناك»، من إنتاج عام 2005 للمخرج المغربي محمد إسماعيل، والفيلم الروائي القصير «سارة» لمخرجته البلجيكية/ المغربية خديجة لوكليرك، وهي أفلام تجد من يتعاطف معها ويموّلها في الغرب.