سينما شريرة.. أم مجتمع بلا ذاكرة؟

TT

وصلتني عبر البريد الإلكتروني قبل عدة أيام رسالة من منسق لأحد المهرجانات السينمائية الإقليمية الأوروبية، يسألني عن حقيقة ما حدث في السعودية من عروض تجارية لأفلام سينمائية، ويهنّئني فيها على هذه الخطوة المهمة، ثم يسألني إن كان هناك سبيل لعرض الفيلم السعودي صاحب هذا الشرف، على هامش مهرجانه، احتفاءً بهذا الحدث.

هذا الرجل جاوز الستين من عمره، وهو يعمل في السينما منذ ما يزيد على 30 عامًا، كمنتج تارةً، ومخرج تارةً، وداعم لسينما الدول النامية تارة أخرى. لم تكن له أي انتماءات فكرية تبشيرية ولا توجهات سياسية دنيئة، إنما كان محبًّا للفن ولذات الفن، وكل أمله - كأي فنان محب للفن - أن لا تغيب شمس الفن قسرًا، عن أي بقعة من بقع هذا العالم. إنه ينظر إلى السينما باعتبارها علامة من علامات عظمة العقل البشري، الذي لا يكفّ عن كشف جنون عبقريته.

لم أكن السعودي الوحيد الذي يعرفه، فهو يشاهد الآلاف من السعوديين الذين يجوبون دول العالم بحثًا عن السينما. والشعب السعودي في نظره، هو الوحيد التي تأخذ السينما حيزًا مهمًّا من أجندة رحلاته السياحية، ثم هو لا يزال - رغم ذلك - شعبًا يملك قيمًا محافظة، وأخلاقيات خاصة، وشخصية اجتماعية لا تتقاطع مع غيرها.

لماذا حوربت السينما من بين كل أشكال الفنون الأخرى؟ ولماذا وُصمت دون غيرها بأنها شريرة؟ وما هذه الحدّية والدروشة التي تجعل أكثر 25 ألف شخص سعودي حضروا تلك العروض في جدة، منافقين وفاسقين وزناة، كما يقول أحدهم؟ بل ومن أين تستمدّ أصوات أخرى، محسوبة على طبقة المثقفين من الإسلاميين، أحكامها المطلقة حول العرف بأن السينما ما هي إلا معول من معاول «تحطيم معالم القيم الاجتماعية الأصيلة»، ويحيل دليل ذلك إلى «جميع الدراسات الاجتماعية الموضوعية»؟ فما يوافق مقصده هو موضوعيّ، وما لا يوافقه هو بالضرورة مدعوم «من الشركات الصهيونية، ومؤسسات الإنتاج اليهودية العالمية».

إن ما حدث في جدة عقب عيد الأضحى كان شجاعة تستحق الإشادة، وما حدث على الرغم من بساطته كحدث، والصعوبات التي سبقته، والتحديات التي أعقبته، فإنه قد كشف عن حقائق كانت مغيَّبه عنوة، طوال العقود الماضية. وكان الكشف عنها يمثل التحدي الأكبر في وجه نقلة مهمة، كتلك التي حدثت في جدة. فحجّة أن غياب السينما خيار شعب محافظ وغيور، أصبح اختيارًا تروّج له أقليه متحدثه باسم أغلبية صامتة. فخمسة وعشرون ألف متفرج حضروا عرضًا لفيلم واحد، في مدينة واحده، في بضعة أيام فقط، كانت فرصه للكشف عن هذا الشغف الكبير الذي تكنّه شريحة واسعة من هذا المجتمع للسينما، بغض النظر عن كونها محافظة أو غيورة أم لا. فالسينما لدى هذه الشريحة المتعطشة كانت نشاطًا يوميًّا يُمارَس في الخفاء، إلا أنهم يحملون قناعة راسخة بأنها لم تمسخهم أبدا إلى مجتمع عربيد ومنحلّ، كما كان يقال.

أما النتيجة الأهم، فهي أنها كشفت عن محدودية فاعلية تلك الأصوات الإقصائية، التي أصبح بعض منها مستهجَنًا، والبعض الآخر مثارًا لسخرية المجتمع.

[email protected]